Top Ad

الثلاثاء، 28 فبراير 2023

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

قصة أعجبتني.. أخوة تتمزق عند القاضي.

يحكى أن ثلاثة إخوة أشقاء، وبعدما مات أبوهم وتعكر بينهم وبين زوجاتهم وأبنائهم صفو العيش وقل رغده، أرادوا اقتسام ما تبقى لهم من ميراث أبيهم، لكن ما عثروا عليه في قرطاس وصيته لهم لم يفهموه، فتوافقوا على فكرة صائبة تقضي بأن يذهبوا جميعا ككل الناس إلى الفقيه القاضي لعله يفك لهم لغزها، ويعطي لكل واحد منهم نصيبه وما أوصي له به كاملا غير منقوص، حزم الإخوة حقائبهم وجهزوا أنفسهم وركبوا على دوابهم وأخذوا طريقهم إلى الفقيه القاضي وكان يسكن بعيدا عنهم في بلاد أخرى، وبينما هم في طريقهم إليه إذ رأوا مرائي غريبة زادت من حيرتهم وشدت بتفكيرهم خلال أيام وليالي السفر أكثر من قضية ميراثهم الغامضة؟.

 

كان أول ما رأوا في طريقهم حصانا ضعيفا هزيلا وكأنه هيكل عظمي في مرعى أخضر فاره الخصب والعشب، مقابل حصان آخر سمين قوي نضر في مرعى قاحل جاف لا ماء فيه ولا كلأ إلا ما نذر؟. وبينما هم يستأنفون طريقهم وهم يستغربون مما رأوا ويحاولون فهمه وفك لغزه دون جدوى، إذ يقفون على واد ضخم على مشارفه يسمعون نقيق الضفادع ضخما وعاليا وخرير مياه رقراقة متدفقة وكأنه وادي عظيم المياه مفعم بالخصب والحياة، لكن ما أن طلوا عليه حتى وجدوه واديا جافا فارغا لا ضفادع فيه ولا مياه ولا أي مظهر من مظاهر الحياة النهرية أصلا؟. زاد استغرابهم كاستغراب قافلة في الصحراء من شدة جوعها وعطشها تتخيل كل شيء؟.

 

تابع الرحالة الملفوفون في ثيابهم وكأنهم الطوارق، تابعوا طريقهم إلى مقصدهم وسط العجائب والخوارق وغرابة الواحدة منها أغرب من الأخرى، الخارقة الثالثة أنهم رأوا أفعى ضخمة كالتنين خرجت من جحرها بكل انسياب وسلاسة، لم تبلع الرقطاء شيئا ولم تشرب ماء خلال زحفها ونزهتها في الغابة الفيحاء، ولكن ما أن أرادت العودة إلى جحرها حتى لم تستطع وضاق عليها قطر الجحر ولم يسعها؟، كأن الأقدار قد حكمت عليها بالمكوث في العراء ظاهرة للعيان لا تستطيع منهم التستر والخفاء، وفي انتظار أن تجد لها جحرا وملجأ جديدا، لاشك أنها ستوقع من الضحايا ما ستوقع ومن يدري ربما كانت هي ضحية الضحايا لما ناصبتهم اللدغ والعداء؟.

 

أخيرا، وصل الإخوة المسافرون الثلاثة إلى بيت الفقيه القاضي، و وجدوا أمامه شيخا كبيرا طاعنا في السن، ملفوفا في سلهامه يحرك تسبيحه ذكرا وشكرا، سألوه هل هو هو؟، أجابهم الشيخ الكبير الجالس أمام باب المنزل بأنه ابن القاضي، أما القاضي بالذات فإنه هناك يلعب مع الشباب، وأشار لهم بيده إلى ملعب كان قريبا من هناك، فتحركوا نحوه ليجدوا الفقيه القاضي يلعب مع الشباب بكل حيوية ونشاط وكأنه لازال في ريعان الشباب فعلا، طلبوه فجاءهم، وأخبروه أنهم قد قصدوه لما عرف عنه من الفقه والحكمة والعدل والإمامة، ليفسر لهم لغز إرثهم في وصية أبيهم. ولكن قبل ذلك ترجوه أن يفسر لهم ما رأوه من غرائب رؤاهم في الطريق إليه؟.

 

رحب الفقيه القاضي بطلبات ضيوفه الثلاثة، وبدأ يفسر لهم غريب مشاهداتهم في الطريق فقال:

1- أما الحصان السمين في المرعى القاحل فتلك هي القناعة، ومن قنع شبع، وأما الحصان الهزيل في المرعى الوارف، فذلك هو الطمع، ومن طمع جاع، وبقدر طمعه تزداد جوعته ولا يردها شيء؟.

2- وأما أصوات الوادي الفارغ، فذلك وادي آخر الزمان الجارف، جري.. وجري.. وجري.. وسط الضوضاء ولا شيء غير الجري والضوضاء، لا ماء يمسك ولا ريح يعقد، على قولهم "جعجعة ولا طحين"؟.

3- أما الأفعى الضخمة الرقطاء التي لم تستطع العودة في جحرها، فتلك مثلها مثل الكلمة السيئة، إذا خرجت من في صاحبها لم يستطع إرجاعها.. ولا محوها.. ولا إيقافها، وهي لابد متجولة مبتكة آذان سامعيها موجعة قلوب ضحاياها؟. وكل ذلك مما يفسد العلاقات ويقطع الوشائج بين العباد.

 

            زاد استغراب الإخوة الثلاثة فسألوه لطفا عن حاله مع ابنه، كيف شاب ابنه وهرم وهو الأصغر؟، وكيف لازال هو يتمتع بشبابه وقوته وهو الأكبر؟. قال لهم مبتسما: "قبل أن أجيبكم عن هذا السؤال اسمحوا لي أن أدعوكم لمأدبة عنده حتى نقوم بواجب ضيافتكم، وداره بالقرب من داري"؟. قبل الإخوة استضافة الشيخ ولو في دار ابنه فلا فرق. وبينما الإخوة في دار الابن رأوا زوجته على جمالها، كم هي قبيحة المعاملة سليطة اللسان، لم تطق ضيوفه على غرة، ولا أرادت خدمتهم، فبالأحرى إكرامهم ولو بما تيسر ولو بالكلمة الطيبة؟. قام الناس محرجين ليكملوا ضيافتهم في بيت الشيخ القاضي ورأوا كيف أن زوجته كيف رحبت بهم وخدمتهم بكل فرح وسرور وبسمة ولطف؟. فقال القاضي لضيوفه: "هكذا المرأة الطالحة القبيحة السليطة.. المسرفة البخيلة.. تشيب زوجها قبل الأوان.. وهكذا المرأة الصالحة الجميلة الكريمة السخية، يسعد معها زوجها على مدى الحياة؟.  

 

            أما وصية ميراثكم يا أبنائي فإنها تفسر نفسها بنفسها، أما الأخ الذي كان قرطاس ميراثه حفنة من التراب فيعني أن له الأرض وعليه بفلاحتها وفيها سيكون رزقه على الله؟. وأما الابن الذي كان قصب ميراثه قرن شاة فيعني ان له كل الماشية، وعليه برعيها ورعايتها وتربيتها وتنميتها وبفضل الله ستجود عليه بخيراتها كلما أدى زكواتها؟. هنا تدخل الأخ الثالث حنقا فقال: " رحمة الله عليك يا أبي.. كتبت الأرض لأخي فلان.. والماشية لأخي علان.. فماذا أبقيت لي وأنا الأصغر الأحقر"؟. قال القاضي: " لست الأحقر  بل أنت الأشطر وصاحب الدينار الأصفر، ويعني أن أباك قد ترك لك التجارة وأوصاك بها وهي خير من الإجارة إذا ما وجدت من الشطارة ما تستحق، قضي الأمر الذي فيه تستفتون"؟.

 

            حكاية سمعت أغرب خيوطها من أحد الفضلاء في وليمة فأعجبتني، فنسجتها ببعض المناسج والاضافات والاستنتاجات، وأردت تقاسمها مع القراء الكرام الأفاضل، عل بعض الفوائد تنالهم منها  والفوائد منها مضمونة، وبها تكون الحياة متزنة، فليحذر أحدنا أن يكون مثل الحصان الهزيل في المرعى الخصب الأخضر (التيه واللاقناعة)، أو يكثر ضجيج السعي في الثلث الخالي دون معرفة زمانه ولا الاقدام على شأنه (ما لا طائل من ورائه)، أو يطلق سهام كلامه وتصرفه السيء وهما سيرتدان عليه ويصيبانه في وجع ومقتل قبل غيره (لا يحيق المكر السيء إلا بأهله)، واحذر من خضراء الدمن (المرأة الجميلة في المنبت السوء)، واحرص عموما على الفعل المناسب في المكان المناسب وبالشكل المناسب( فقها علما أو قضاء.. فلاحة رعيا أو تجارة)، ولا تحقرن من المعروف شيئا أي شيء، والله المستعان؟.

الحبيب عكي



اقرء المزيد

الاثنين، 20 فبراير 2023

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

العمل المدني 2023.. رهانات وتحديات.

        من أهميته البالغة، أصبحت العديد من الهيئات على اختلاف مهامها واهتماماتها، تعتمد عليه بشكل مباشر في صلب اعمالها، أو بشكل غير مباشر في ما يكون لها من علاقات وشراكات مع جمعيات المجتمع المدني وهيئاتها الموازية واتحاداتها الفئوية والوطنية، والتي أثبتت جدارتها ومردوديتها في العمل المدني بمختلف مجالاته، فأصبحنا نرى المؤسسة الجمعية.. والجماعة الجمعية.. والحزب الجمعية.. إن لم يكن في بعض الأحيان الدولة الجمعيات؟. ترى، لماذا هذا الاهتمام البالغ بالعمل المدني خاصة في شقه الجمعوي؟، وما هي رهاناته التنموية والاجتماعية؟، وما هي التحديات التي ستحول دون الاستفادة منه بأبسط الأشكال الواقعية وعلى أكمل الأوجه الممكنة؟.

 

            رهانات العمل المدني الجمعوي متعددة، يمكن إجمال الأساسي منها في:

1- رهان الحق في حرية التعبير والمشاركة في التغيير: بما يعني ذلك الحق في الانتظام.. في التعدد.. في الاعتراف بالآخر.. في تدبير الاختلاف.. في التعاون على المشترك.. في التربية على القيم والمواطنة والتداول على المسؤوليات.. بشكل ديمقراطي وحقوقي.. خاصة في ما يخص الجميع والاهتمام بالشأن المحلي والوطني على كافة المستويات؟.

 

2- رهان الفهم العميق والانجاز الدقيق: "لأن التصور عنوان التصرف - كما يقال - لذا ينبغي الفهم العميق لمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية.. التربوية والثقافية.. والتي ليست بسيطة بالشكل الساذج والعاطفي والمزاجي والتجزيئي الذي نتناولها به أحيانا، مما لا يزيد البحث عن حلول مشاكلها في غياب البحث العلمي والفهم الصحيح والتفاعل الجماعي والتداول الاجتهادي، إلا تأزما واستفحالا، وليس عبثا أن أحزابا وحركات كانت كل بداياتها المتألقة مدنية حارقة، وتصرفاتها من تصوراتها العقدية فلما انحرفت التصورات انحرفت معها السلوكات والتوجهات والمواقف النضالية ككل؟.

 

3- رهان سياسة القرب والتنمية المستدامة والاقتصاد الاجتماعي: باعتبار العمل المدني الجمعوي يهتم أساسا بالفئات الهشة، في فهم همومها.. تقديم خدمات لها.. وإحكام مرافعات من أجلها.. حتى أن الدولة في كثير من مشاريعها إنما هي استجابة لمرافعات المجتمع المدني واستفادة مما خبره عن قرب ويمثله من فئات، بدل الركون إلى تيه وعجز قطاعاتها البيروقراطية والمتعالية والمكبلة بالإكراهات والإملاءات؟، أضف إلى ذلك أن الدولة النامية اليوم، أصبحت تستثمر في الاقتصاد الاجتماعي لجمعياتها وهي بالآلاف، وأنشطتها المذرة للدخل وهي تسجل أرقاما معتبرة في الدخل القومي وساعات هائلات من التطوع ومحاربة البطالة وتنشئة الأطفال واليافعين واستيعاب النساء والشباب؟.

 

4- رهان المواكبة والتجديد ومقاربة الإلتقائية والديمقراطية التشاركية: حسب ما يعتمل في البلد من أحداث ومجريات وما تكون له من رجع الصدى لرهانات وصراعات دولية.. نقاش عمومي.. قوانين جنائية.. أدوار دستورية جديدة.. بما في ذلك أدوار الرقابة على المسؤولين والحكامة في التدبير والمرافق.. وتخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة ما تتيحه الفصول 12..13..15.. من الدستور للمجتمع المدني من حق التشاور العمومي وتقديم العرائض والمذكرات.. ومسؤولية المشاركة في وضع السياسات العمومية وتنزيلها.. مراقبتها تقييمها وتطويرها؟.

 

5- رهان انتاج وتكوين عموم النخب المدنية والاصلاحية: فالعديد من المؤسسات تتكسر مشاريعها وتتعثر برامجها من قلة العنصر البشري المؤهل أو ضعفه أو غيابه، ناهيك عن عجزه وانحرافه وفساده أحيانا، والعمل المدني بمختلف كلياته ومعاهده وجمعياته الميدانية وأكاديمياته التدريبية كان على الدوام مدرسة لتخريج الطاقات والزعامات الوطنية ومشتلا لتنمية المهارات الإنتاجية والقدرات الإصلاحية في مختلف مجالات الإصلاح والتنمية المستدامة، التي تتوسل في تدخلاتها الناجحة بمخرجات البحث العلمي الذي يقصم ظهر التخلف الاجتماعي المزمن.

 

            وللعمل المدني الجمعوي أيضا تحديات جسيمة وحاسمة، دون رفعها من الصعب أن يصل إلى تحقيق ما سبق من الرهانات على نبلها وأهميتها في حياة الوطن والمواطن، ومن تلك التحديات:

1- تحدي الاستقلالية والأصالة: الاستقلالية عن السلطة والخضوع لتوجيهاتها.. ضغطها وإغرائها.. عن الأحزاب ومجالسها الجماعية وسياستها السياسوية.. عن الهيئات والمنظمات الخارجية.. وغيرها من الهيئات التي تستغل العمل المدني سواء بالدعم أو التضييق أو الانحياز العصبي.. دون وجه حق ولا قانون مما سيخرج هذا العمل المجتمعي النبيل عن أصالته الكونية وسماته التاريخية التي كان يعرف بها على الدوام، من الاستقلالية والسلمية.. والحرية والانتظامية والتطوعية والعمومية..؟.

 

2- تحدي الرؤية الواضحة والرسالة الهادفة: رؤية واضحة لأهداف العمل المدني المعاصر ومدى ملائمتها مع الإشكالات القطرية والكونية المطروحة والمزمنة والفئات الاجتماعية المستهدفة والفضاءات والامكانيات والطاقات المتاحة..؟، والرسالية وهي الفعالية في القدرة على بلورة هذه الرؤية على أرض الواقع باعتبار الزمان والمكان، والحفاظ على نصاعتها أمام ما قد يعترضها في زحمة الموجات المغرضة  للجمعيات "الضرار" ومشاريعها التمييعية في الريع والتحكم والنكوص، أو تجديد تلك الرؤية والرسالة وفق المستجدات والتحديات، ولكن، بعيدا من أن ينقلب "مشروع الثقافة إلى ثقافة المشروع"، وليس من أهدافك؟.

 

3- تحدي الهيكلة الوطنية والائتلافية الموسعة: الهيكلة الوطنية الكفيلة بتعميم الرسالة على أوسع نطاق ممكن ف"الخير ما عم وانتشر لا ما خص وانحصر".. الهيكلة المتخصصة في مختلف فئات الأطفال والنساء والشباب والشيوخ والمعطلين وذوي الاحتياجات.. وفي مختلف حاجياتهم التربوية والثقافية والإبداعية.. الفنية والرياضية والاجتماعية.. والقادرة على تقديم الخدمات وحسن التوجيه وخلق الدخل وتلبية الحاجيات.. والقادرة على الدخول في ائتلافات موضوعاتية محلية وجهوية.. وطنية ودولية على حد قولهم: "اعمل محليا.. وفكر دوليا"؟.

 

4- تحدي المعيارية والجمالية أي الحرفية والاتقان: بدل الهواية والارتجال والاستمرار على ذلك عندما لا تكون الأعمال والتخصصات قد استكملت طيفها التربوي والثقافي.. الإبداعي والجمالي.. ولا تسعى إلى ذلك.. لا إلى تأسيس منتديات ولا ملتقيات.. ولا بيوت حكمة ولا اتحادات وروابط مدنية.. أو تفعل بعض ذلك ولكن بمعايير جمالية مبتدئة وبدائية تنفر أكثر مما تجذب.. حكاية عرض إنشادي أو مسرحي فيه من الفراغ والفوضى وسوء التنظيم والرداءة ما فيه، ورغم ذلك يعتبر مقدموه أنهم على شيء لمجرد أنهم قاموا بذلك ولو دون اعتبار المعايير المعتبرة؟.

 

5- تحدي التكوين والتكوين المستمر والتنادي والاستمرارية: تكوين الفاعلين المدنيين في مختلف التخصصات والتقنيات والمهارات.. بأنجح وأنجع التكوينات التي تثري أفكارهم وتنمي قدراتهم وتنوع مهاراتهم.. بما يجعل منها قيمة مضافة تحفزهم على التشبث بهيئاتهم المدنية والإخلاص في الانتماء لها والعمل فيها بشوق ومحبة والإنتاج فيها بيسر  ومتعة.. والاستمرارية فيها بدل المرور فيها مرور الكرام وهجرها إلى غيرها من المرافئ التي قد تكون الأدنى بدل التي هي خير، ولا شك أن التنادي الوطني والدولي بين الفاعلين المدنيين في منتديات صيفية خاصة (سياحة وتكوين) مما سيثري ويجدد قناعاتهم وينظم أعمالهم ويوسع آفاقهم ويضمن مشاركة الجميع في التفكير والاستيعاب والتنزيل.. وكل هذا مما سيؤمن مسارهم ويثمر نضالهم ويحصن اختيارهم ويعطي استمرارية حياة لرسالتهم ومؤسساتهم؟.

 

            وأكيد، أن هناك تحديات أخرى خاصة ما يتصل منها بالشفافية في التعامل مع الجمعيات (دابة سوداء)، والورش التشريعي لتجديد منظومة العمل الجمعوي المتقادمة، والمعرقلة أكثر لحساسية من الجمعيات الجادة والهادفة تتسع معاناتها كل يوم بقدر ما يتسع طيفها وامتدادها وإنجازها، خاصة في ما يخص حرمانها من المنح والشراكات والتشاور العمومي والرخص والفضاءات العمومية و وصولات التجديد التي قد تصل أحيانا صلافة التدخل في تكوين مكاتبها وفضاءات عملها..، ولكن كل هذا سيبقى مرتبطا بالعقليات والمسؤوليات في بعض المدن والجهات.. وكذا بعض الجمعيات ونوع الترافعات.. وبعض الرياح المعاكسة لبعض العواصف السياسوية.. التي لن تكون لها أية مصداقية في كل ما تدعيه من مصلحة وطنية ورغبة تنموية دون تجديد قانون الحريات العامة الحالي وتفعيله على أرض الواقع بكل شفافية دون تأويلات ولا انحيازات، مما يضمن تطبيقه تطبيقا قانونيا دستوريا.. وطنيا تنمويا.. مدنيا مستوعبا.. ميسرا وسليما.. كان لمن كان من السلطات والجمعيات أو كان عليهما؟.

الحبيب عكي


اقرء المزيد

الأحد، 12 فبراير 2023

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

الاضعاف الممنهج لتدريس العلوم الفيزيائية في المغرب.

 

أين منا جلال وهيبة تلك السنوات الماضيات، حيث كان التلميذ تملؤه مشاعر الفخر والاعتزاز، لمجرد أنه كان يدرس العلوم وتوجه إلى إحدى التوجهات العلمية، على جلال قدرها، وأهمية معارفها ومتعة تجاربها، واستعمالها المكثف والضروري واليومي في الحياة العامة،.. في تشكيل العقلية العلمية للتلميذ.. ونحت أسلوبه المنطقي في التفكير والتعاطي مع المشكلات والبحث عن الحلول للمستجد من الحالات.. في تعلم البرهنة والاستدلال والاستنباط والاستقراء.. والتحليل والتركيب والتفكيك والملاحظة والاستنتاج على نهج ( Claude Bachelard : O.H.E.R.I.C).. في الحكم على صحة الفرضيات والخلاصات من خطئها.. فإذا بالبرعوم اليافع وسيرا على نهج أساتذته وقدواته في علوم الرياضيات.. الفيزياء والكيمياء.. علوم الحياة والأرض.. يصول ويجول في مختلف طرق التحليل.. الطريقة العبثية (l’absurde) التقابلية (la contraposée) التكرارية (récurrence) التحليل والتوليف (analyse-synthèse).. يقنعك عند المناقشة.. يحيرك عند السؤال.. يبهرك عند الإجابة.. يحنتك أنت والسبورة عند المشاركة، وفي كل شيء يمارس بالعفوية والسليقة عمق التفكير وبراعة التحليل.. ومهارة حل المشكلات وفن اتخاذ القرارات.. واقتحام المستجدات، ويجعل كل من يراه لا يملك إلا أن يقول: فعلا، كانت هناك دراسة.. وكانت هناك مردودية.. واستفادت منها الأجيال؟.

 

اليوم مع تقدير كل المجهودات المبذولة، لم يعد شيء يسعف على ذلك، ولا حتى على نصفه أو ربعه أو شيء من ذلك، فما الذي حصل؟، وكيف فقدت المدرسة المغربية وهج تدريس العلوم، وربما، إلى درجة أصبح فيها سعي التلميذ إلى الظهور بالشغب، أفضل عنده من الظهور بشيء يسمى العلوم أو الآداب؟، وربما، إلى درجة أصبح فيه التوجيه إلى (Sciences Cuisines) و (Sciences Promenades) يساوي عنده التوجيه إلى العلوم التجريبية والعلوم الرياضية والتكنولوجيا والمعلوميات.. إن لم يكن مقدما عليها أفراد الهدر المدرسي وجماعات الفصل وجحافل التكرار؟. وبالتالي، لا غرابة أن يفقد المجتمع بحبوحة ما كانت تسمى بالتخصصات العلمية والوظائف التقنية والرقمية على أهميتها وتميزها ووفرتها آنذاك، لا غرابة أن نفقد بالأخص مساراتها العلمية تقليدية كانت أو مستجدة، مع  ما يتيحه ذلك من استكمال الدراسات العليا في شعبة من شعبها ومسلك من مسالكها، مع ما يؤدي إليه ذلك أيضا عند الجادين والطموحين من البحث العلمي والتجارب والابتكارات التي تنهض فعلا بتنمية الوطن وتبصم على تقدم الأمة ومساعدة الإنسانية في معاركها ضد التخلف والانحراف، بدل المفترى عليه اليوم من أوهام النهوض والتنمية البشرية بمشاريع "السانجير" و"الهندية" والماعز والخرفان والأرانب والدجاج؟.


 


الواقع، أنه قد تظافرت العديد من النكسات وضرباتها القاضية على منتجعات العلوم، وكانت تصورية وجو ممارسة وممارسة صفية وإشعاع ثقافي..، وكانت في كل مرة تأخذ من قوة العلوم وعزمها حتى أصبحت المسكينة على ما أصبحت عليه اليوم من الترهل والعياء وفقدان البريق والمعنى "لا أرضا تقطع ولا ظهرا تبقي"؟. وفي مجال تدريس العلوم الفيزيائية مثلا، وقبل البحث عن حلول ومقترحات النهوض، يمكن تفصيل هذه النكبات والنكسات على الشكل التالي:

 

1-                     فعلى مستوى التصور: جاء بعض قادة "الإصلاح" أيام الميثاق الوطني، وتدبيرا لأزمة قلة الأطر والفضاءات، قالوا إن مادة العلوم الفيزيائية كغيرها من المواد، وبالتالي لا مبرر بأن تحظى بشيء يميزها عن غيرها ولا ينبغي، خاصة وأن التلميذ في مجرد المرحلة الإعدادية والاستكشافية لمختلف المواد ولم يتخصص بعد في أي منها، وبالتالي ينبغي أن تتساوى عنده كل المواد، من هنا نقصوا عدد ساعاتها.. نقصوا معاملها إلى مجرد واحد يتيم، سنوا إمكانية حذف تدريسها بالتجارب عند غيابها، وحذف تفويجها استثناء عند الاقتضاء، الجرم الذي أصبح في ما بعد قاعدة مضطردة؟، ارتفاع عدد التجار في الكتاب المدرسي دون أية ميزة خاصة غير موضة الأسماء؟، تجاوزوا التعليمات الرسمية والإطار المرجعي رغم ما كان يقع من التذبذب بين التدريس بالعربية والفرنسية؟، وهكذا.. وهكذا.. حتى أصبحنا اليوم وكأننا أمام مادة استئناسية أدبية لا أساسية ولا علمية؟.

 

2-  على مستوى جو الممارسة المختبرية: وقد تحكم فيها توجهين أو ثلاثة، أولهما قضى بالتقشف وعدم الانفاق على تجهيز المختبرات بالعتاد التجريبي ووسائل الإيضاح على أهميتها البالغة وكونها نقطة انطلاق كل شيء في العلوم التجريبية مثل علومنا، التوجه الثاني نظرة أمنية ضيقة تقضي بالحذر من المواد الكيميائية التي تمكث في المختبرات وما قد يصل إليها من أيادي المستثمرين في عمليات الإرهاب المدمرة؟، ما جعل الجميع أساتذة وتلاميذ يزهدون في كل ما قد يأتي من إضافات التجارب ويكتفون بدروس علمية جافة على السبورة (Physique sur le Tableau) بدون تجارب مثيرة للملاحظة والسؤال والحليل والتعليل؟، ومما ساعد على ذلك أيضا غياب أي تأمين للأستاذ في تعامله مع المواد المختبرية وخطورتها، ولا تعويضه عليها.. ولا حتى برمجة ساعتيها في استعمال زمانه، أضف إلى ذلك الخصاص المهول في عدد محضري المختبرات، وتعثر حماس الدعوة إلى تعويض التجارب العملية بالتجارب الافتراضية الرقمية وهو في بدايته، ذلك لغياب تلك الوسائل الرقمية وبرمجياتها في المؤسسات من جهة، وعدم الإحساس بالملموس والعملي في تلك التجارب البديلة من جهة أخرى؟. أما عن فرق البحث والابتكار والتجديد والإبداع في المؤسسات وعلى مستوى المديريات والأكاديميات، فمجرد كلام للاستهلاك والتمني؟.

 

         يحكي لي أحد أساتذة المادة أنه كان بداية تعيينه قبل حوالي ثلاثة عقود، ومن فرط ما كان يعطي الطابع التجريبي حقه ومستحقه في تدريس المادة، كان يقوم في كل حصة وفي كل فصل بستة إلى ثمانية مجموعات من التلاميذ للتجارب، ويدير كل ذلك بدينامية الجماعة وببراعة، ويكون مستوى الفهم عند التلاميذ ومستوى مشاركتهم عاليا، وينعكس كل ذلك في مستوى تحصيلهم العلمي وتفكيرهم المنطقي، ومستوى النقط التي يحصلون عليها ومستوى النجاح الذي يحققونه، بل مستوى القدرة على المتابعة في التوجهات العلمية دون صعوبات ولا هوس الساعات الإضافية؟، واليوم - مع الأسف - ينتهي به المسار نتيجة كل الاكراهات السابقة والمتفاقمة إلى تجربة واحدة يقوم بها هو ذاته أمام السبورة، والتلاميذ في شغبهم واكتظاظهم لا يبالون، وقد يرى منها بعض المنتبهين شيئا وقد لا يرونه .. وقد يقوم بدل كل ذلك بتجربة واحدة أخرى افتراضية رقمية إذا ما توفرت لديه آلة العرض (Data show) وأسعتفه لوازمها البرمجية النادرة وروابطها الكهربائية الميتة؟.



1-  وعلى مستوى الممارسة الصفية: أصبح الأستاذ يمارس تدريسه في ظل مذكرات مقيدة للمبادرة والعطاء والتجديد والإبداع.. ومع تلميذ - كان الله في عونه – مع ما يعانيه من تدني مستواه العلمي والمعرفي والتربوي واللغوي.. مع صدمة إعادة فرنسة المادة فلا يستطيع التعبير والتواصل كما كان يفعل أيام التدريس بلغته العربية؟. يسأله الأستاذ في الفرض الكتابي أسئلة ذات أجوبة اختيارية، نعم أو لا؟، فيؤشر الطيب على كلا الاختيارين؟، ويسأله الأستاذ حدد شكل الجسم، مربع أم مستطيل، أو مكعب؟، فيجيب الطيب: إنه مربع مستطيل يشبه المكعب؟. أما عن الاشراف التربوي فقد قرأت أنه قد بلغ أرقاما قياسية يستحيل معها كل شيء غير الكذب على الذقون ( 128/1 يعني مفتش واحد ل128 أستاذ)؟، وهكذا إذن،.. ضعف المستوى.. فرنسة المقرر.. اكتظاظ القسم بعدم التفويج.. غياب التجارب.. هشاشة التكوين والاشراف.. وننتظر النتيجة، وطبعا تأتي كما يخطط لها المخططون.. تكرار.. وتثليث.. وطرد واستعطاف وإعادة المطرودين.. في دوامة تزداد ولا تتراجع.. فاللهم لا شماتة؟.

 

2-  على مستوى الدعم والتواصل والاشعاع ونشر الثقافة العلمية: الحقيقة، أن أساتذة المادة والمشرفين على تأطيرها تربويا وعلميا، يتحملون أيضا جزء من المسؤولية رغم كل الاكراهات والتحديات،.. بدء من ضعف إلى غياب أي إطار قانوني ومهني يجمعهم كمهتمين وممارسين.. على غرار غيرهم في بعض المواد الأخرى في إطاراتهم المدنية المحلية والوطنية ولما لا الدولية؟، تأخذ على عاتقها كيفية النهوض بتدريس المادة عبر الممكن من الفرق التربوية والبحثية التجديدية.. الممكن من المنابر والوسائط والمنصات التفاعلية الثقافية التواصلية الاشعاعية، كمجلة متخصصة لتقاسم الخبرات والتجارب والبحوث تدعم طبعها الوزارة وأكاديميتها، أو موقع إلكتروني تفاعلي مع مختلف المستويات والفئات والهيئات، أو قناة أو صفحة رسمية ومفعلة في مواقع التواصل الاجتماعي؟. وصولا إلى ما يمكن إنشاؤه من أندية علمية بالمؤسسات التربوية لدعم تعلمات وعلمية وتواصل التلاميذ، واحتضان شغفهم في القيام بالتجارب وبحوثهم في بعض الظواهر والإشكالات.. ومحاولات تركيبهم للممكن من الأجهزة والمركبات؟. إلى غير ذلك مما يدعم نشر الثقافة العلمية في المؤسسات وتعميمها في المجتمع؟.

 

          ويبقى أن تدريس هذه المادة العلمية التي هي العلوم الفيزيائية، لها أهمية كبرى في حياة التلاميذ وتشكيل عقولهم ومنطقهم في التفكير والتعامل مع المواقف والمستجدات والظواهر الحياتية والأشياء التقنية والآخرين، وهي مادة تستعمل في كل جوانب ومجالات الحياة وبشكل يومي مكثف، وهي من صميمها في كل شيء.. في تحديد الأشكال وقياس المسافات..  في الموازين والقياسات.. في أدوات الكهرباء والآلات.. في الألوان والصباغات.. في المواد والصناعات.. في الخلائط والفلزات والأشابات.. في حركات السيارات وأنواع الطاقات.. في.. في.. وفي؟.  ويحكي تاريخ الدول المتقدمة أنها ما تمكنت من نهضتها إلا عندما جعلت الثقافة العلمية ثقافة شعبية بدل الجهل والخرافات والتفاهات والفضائح والإشاعات..؟، فهل انتهى دور العلوم الفيزيائية في المجتمع ولم نعد نحتاج إليها في معرفة ظواهر الماء والهواء.. الضوء والكهرباء.. الخلائص والخلائط.. الاحتراقات والاختناقات.. الطاقيات والفلكيات.. الالكترونيات والروبوتات.. الرقميات والمعلوميات؟.  بلى، إنها الحياة.. روعتها وقبحها.. منطق عقلها وخفقان قلبها.. تفاعلاتها وتحولاتها.. أمنها وسلامتها.. عقرب ساعتها وبوصلة توجهها.. شمس ضيائها ورقاص نهضتها.. فمتى نعيد لتدريسها اعتباره اللائق.. كيف و متى وبأي مدى وهو اللازم والمطلوب؟.

الحبيب عكي


اقرء المزيد

الأحد، 5 فبراير 2023

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

العمل الاجتماعي وسؤال مضاعفة الجهود وتضافرها.

          شابة ثلاثينية تمارس مهنة رجولية اضطرتها ظروفها القاسية ببدل مجهود فوق طاقتها للتكيف مع متطلبات المهنة المقنعة وقساوتها خاصة في تعاملها مع زبناء من مختلف الفئات، يغشون عليها فضائها المفتوح ولا تكترث في أن تعاملهم تعاملا مسترجلا.. جافا و سوقيا، ربما لترد على بعضهم بالمثل أو تسبق إلى فرض نفسها على غيرها كمسيطرة كفئة على الميدان، وكيفما كان الحال، فيظهر أنها بتلك المواقف الحادة والتصرفات الخشنة فقدت كثيرا من مظاهر أنوثتها وفطرتها في الشكل والمضمون. سأل السائلون عن حالتها فقيل أنها حالة اجتماعية مزرية تعيش في الشارع ظروفا صعبة وهي تدري أو لا تدري لا رزقها وفرت ولا آدميتها أبقت؟.

 

            حالة من مئات وآلاف الحالات الإنسانية في مختلف المدن والقرى، متشردين ومتشردات.. متسولين ومتسولات.. مدمنين ومدمنات.. نشالين ونشالات.. عانسين وعانسات.. مطلقين ومطلقات.. بائعي الهوى وبائعات.. منتحلين ومنتحلات.. بطاليين مكدين وبطاليات مكديات.. مرضى ومتمارضين.. رقاة متطفلين وراقيات متطفلات.. مهاجرين سريين ومهاجرات..؟. الفقر والهشاشة والخوف والانحراف والتفكك والاضطرار يطال منهم الشباب الكبار والأطفال الصغار، مما يسائل المجتمع ككل عن حياة هؤلاء الآدميين كآدميين، بل عن مستقبل الأمة في ظل كل خطاباتها حول المواطنة والأخوة والتضامن وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا؟.  

 

            وضع اجتماعي جد مأساوي تمكنت بعض الدول الراقية من القضاء عليه، وبعضها النامي من التخفيف من كوارثه، وبعضها المتخلف لا زال يعافسه بكل قيمه الدينية ورؤاه التنموية وخططه الاستراتيجية وسياساته العمومية وبرامجه التنموية، وهو بذلك إنما يعافس خطورة ما تنتجه هذه الظاهرة المقيتة من سيادة قيم الفردانية والأنانية في المجتمع، من الاقتصاديات المتوحشة، من تفشي سلوك الحقد والغل والقطيعة بدل التراحم بين الفقراء والأغنياء، من السطو الهمجي على ممتلكات الناس وأرزاقهم بكل الطرق والممارسات، إلى غير ذلك من الاضطراب المجتمعي الذي يدفع المتضررين الضحايا للخروج على قيم المواطنة وقوانين الأمن وهم بوعي منهم أو غير وعي لا يبالون؟.

 

            أكيد أن هناك جهودا جبارة في العمل الاجتماعي والتضامني في بلادنا كغيرها من البلدان، جهود رسمية منظمة وأخرى مدنية تطوعية، وجهود معتبرة للعديد من الهيئات والفعاليات والمحسنين والعلماء الأفاضل..، وكل هذا جيد، ولكنه لا زال يبقي السؤال حارقا مؤرقا، لماذا لا زالت تزداد عندنا ظاهرة الفقر والهشاشة والتفكك والحرمان ولا تنقص؟. ولماذا لا زالت تدخلات محاربتها في المجمل خدماتية إحسانية تفقر ولا تغني؟. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الحاجة جد ماسة وتدعو إلى ضرورة مراجعة سياستنا الاجتماعية بحزم وعزم وصدق، وفي الاتجاه الذي يحررها من شوائبها ونقائصها وموسميتها وحدود مجالاتها وبما يحقق كفايتها ونجاعتها وشموليتها، ومن أجل ذلك لابد من:

 

1- اليقين في الرؤية الإسلامية لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية، رؤية تقوم بكل وضوح على مبدإ التضامن وقيم التكافل والتعاون، قال تعالى بكل وضوح وجلال: " إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ" التوبة/60. وهذا مبدأ واضح يجعل الأموال والخدمات والمساعدات دولة بين الجميع، من الجميع وإلى الجميع وليس بين الأغنياء فقط، وهو تزكية تربوية وقيمة خلقية تغني الفقراء ولا تفقر الأغنياء؟.

 

2- مضاعفة وتنظيم الدولة لجهودها في المجال الاجتماعي، باستنهاض كل موارده المعطلة كالوقف والزكاة وترشيد مصارفه غير المحكمة، في شكل خطط وبرامج ناجعة وهيئات ومؤسسات فعالة، تتعقب كل مظاهر العوز والحاجة الاجتماعية عبر الزمان والمكان وتستبقها كحق للمحتاجين يحقق لهم كرامة المواطنة وعدل الإنصاف، بحيث تسعى مستحقاتهم إلى كل المستهدفين المستحقين منهم وتصل إليهم بكل يسر في الوقت المناسب، لا كما هو الحال في بعض الأحوال يطلبونها وينتظرونها فلا يجدونها ولو  ولج الجمل في سم الخياط، أو يجدون بعض فتاتها طوارئ دون طوارئ وفي موسم دون موسم أو في مجال دون مجال؟.

 

3- تحمل ذوي القربى مسؤولياتهم اتجاه ذويهم ومعارفهم من الفقراء والمحتاجين والأصدقاء، وهم الأقرب إليهم مودة وثقة، والأعرف بهم وبظروفهم وملابساتهم ونفسياتهم وحاجياتهم، ولو أن كل الأقارب اعتنوا بأقاربهم وأصدقائهم فقط قدر الإمكان ما اكتظت كل هذه الشوارع والمحطات والملاجىء بكل هذه الجحافل من المهملين من المسنين الكبار والهاربين من الأطفال الصغار، ممن كان قبل هذا يتكلف بهم مجرد المحسنين من الأخوة والأخوات والآباء والأمهات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والجيران والأصدقاء والجارات والصديقات..؟.

 

4- تشجيع جمعيات المجتمع المدني والقطاع الخاص المواطن على الإسهام في التخفيف من الوطأة الاجتماعية في الاتجاه التشاركي الخدماتي، نعم، ولكن أيضا في الاتجاه الترافعي التشريعي لدمقرطة الخدمات وتعددها واستدامتها، وأيضا في اتجاه البحث العلمي حول المعضلة الاجتماعية تجاربها وتطوراتها.. تعقيداتها وإبداعاتها، وفي الاتجاه التكويني المنتج أو ما يسمى بالاقتصاد الاجتماعي التضامني والمشاريع المدرة للدخل كما يقول المثل: "لا تعطيني كل يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطادها"، هذا التشجيع الذي لن يكون - كما يحدث اليوم - بالحسابات السياسوية والمقاربات الأمنية الضيقة، ولا القوانين الزجرية التي تفرض وكأنها لتعميق المعضلة الاجتماعية وتشديد وطأتها، كقانون الإحسان العمومي (18.18) الذي جاء يضيق على الأعراف الوطنية في الوقف والصدقات وفي التبرع والعباسيات، والأصل ألا نضيق واسعا، وباب الصدقات والمساعدات من أوسع الأبواب التي ينبغي أن تظل مشرعة، ورغم ذلك سيضيق عليها القانون الذي مرره الممررون جملة وتفصيلا  رغم رفض الجمعيات الخيرية والإحسانية له وترافعها القوي ضده؟.

 

5- مساعدة الضحايا لأنفسهم وبذل وسعهم لإنقاذهم وتحسين أحوالهم بأنفسهم، خاصة الذين يمكن لهم ذلك وكثير ما هم، فما حك جلدك مثل ظفرك وما حل إشكالك مثل جهدك وسعيك، وطبعا، قد يكون مثل هذا الأمر صعبا جدا من الناحية المادية الهشة والمنعدمة للمحتاجين، ولكنه قد يكون جد ممكنا من الناحية المعنوية، فقط، لو يجد هؤلاء المحتاجون المعانون من يرفع من معنوياتهم والثقة بأنفسهم وإزالة ما علق بطيبوبتهم وفطرتهم من أدران، ويوضح لهم عبر مرافقته لهم حقيقة ما يحول دونهم ودون طموحهم من أوهام ويحول دونهم ودون مبادراتهم وبداياتهم من أسقام، وكلها عوامل مهمة لصقل جوهرهم الإنساني الناصع واستعادة آدميتهم الدفينة وكرامتهم المسحوقة وتحقيق طموحاتهم الممكنة؟.

 

            قد يرضى المرء بقضاء الله وقدره في أن يكون فقيرا محتاجا، وقد يقبل أن يمارس أي شيء حقير تحت ضغط المرارة والاضطرار ما لم يكن حراما، لأنه قد "قد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، ولكن، من الصعب أن يقبل المرء بالمذلة والمهانة وهي كل يوم تأتي على آدميته وتريق من كرامته وما تبقى له من شعوره الإنساني، وتسقي فيه جذور التوتر والغل ضد من يعتقدهم يأكلون غلة شبابه ويضيعون حاجة شيبته.. يضيعون كرامته ومواطنته في دولة طالما رفعت شعار: "الدولة الاجتماعية".. "الدولة المواطنة".. "الدولة الحقوقية".. "الدولة التضامنية"..، لكن بأي معنى وبأي مبنى إذا لم تتضاعف وتتضافر جهود الجميع في المعضلة الاجتماعية كما تستوجب ذلك الحاجة الميدانية الملحة والمتسعة والمتفاقمة لجحافل من الفقراء والمساكين، وضجيج الأرقام يتحدث عن حوالي 80 % من المواطنين غير موظفين، وأزمة "كوفيد 19" أوصلت المساعدات إلى حوالي 500 ألف أسرة عدد أفرادها يفوق 25 مليون نسمة.. وهم ينتظرون وينتظرون في كل المناسبات.. وحتى لا يكون جزاء انتظارهم مجرد السخط والانتظار لابد من تدارك هذا التضييق المجاني في الموضوع مع الإبقاء على المراقبة اللازمة في أنشطته، وذلك حتى تكون جهودنا رسمية قطاعية ومدنية تطوعية.. جماعية ومنتظمة.. مضطردة وكافية.. شاملة ودائمة.. وطنية ومجالية.. قريبة وميسرة.. ويشعر الجميع بدفء تضامنها وهو من دفء تضامن واستقرار وازدهار هذا الوطن ؟.

الحبيب عكي




 

اقرء المزيد

الخميس، 2 فبراير 2023

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

الفرنسية وحدها كافية لتدني النتائج.

        يحكي لي زميلي الأستاذ عن صدمته القوية مما وصل إليه مستوى التلميذ في المستوى الإشهادي الاعدادي الذي فرض فيه تدريس المواد العلمية بالفرنسية، ذلك ما وقف عليه بنفسه وهو يصحح أوراق الامتحان الموحد للأسدس الأول في مادة علوم الحياة والأرض، وكان ضمن أسئلته سؤال الاسترجاع البسيط وهو عبارة عن صور لستة أعضاء من جسم الانسان القلب والمعدة، الدماغ والأمعاء، الرئة والنخاع الشوكي، وكان مطلوبا من التلميذ فقط أن يسميها كل واحدة باسمها وبالفرنسية طبعا.. لكن مع الأسف كانت العديد من الإجابات – حسب التصحيح – خاطئة بالمجمل، لم يفرز فيها التلاميذ بين أعضاء جسم الإنسان الستة لا بالصورة ولا بالاسم ولا بالكتابة الصحيحة؟.

 

            أدخلني الزميل في صدمته رغم أني حاولت التخفيف عنه و قلت له: "لا داعي للصدمة فالأمر عادي، أن يجيب التلميذ عن السؤال أو لا يجيب أمر عادي"، قال وهو يرفض رأيي البتة: " كيف يكون الأمر عاديا يا أستاذ، ألا يعرف تلميذ الإعدادي الإشهادي أسماء أعضاء جسم الإنسان ولا يستطيع كتابة أسمائها بالفرنسية بشكل صحيح؟. وقد درس كل ذلك في العديد من الدروس، سمع خلالها هذه المصطلحات ما لا يقل عن أربع أو ست مرات في كل حصة، شرحها وكتبها غير ما مرة ولا يجيب، فكيف لو سألناه عن وظائفها أو عن العلاقة في ما بينها؟، أو عن أي سؤال حقيقي في التحليل والتركيب والملاحظة والاستنتاج مما يعد من لوازم التفكير المنطقي النقدي والمنهج العلمي الاستنباطي؟.

 

            قلت له: " لقد قلت كلاما في مستهل حديثك لو انتبهت إليه ما توترت للموضوع أصلا، فبالأحرى بهذا الشكل القوي، لقد قلت المستوى الاشهادي الذي فرض فيه تدريس المواد العلمية بالفرنسية، فهل التلميذ في هذا المستوى وفي غيره من المستويات يفهم الفرنسية أصلا وإن تحدث بها الأستاذ كأحسن من الفرنسيين؟، هل تغلب على مشاكلها نطقا وكتابة.. تفكيرا وتواصلا؟، ما أدراك أن L’estomac  لم تكن عنده غير Le foie  .. وأن Le cœur لم يكن عنده غيرLes poumons  بالفرنسية طبعا؟. كذبت الصور ة ولو صدقت.. القلب هو L’estomac و L’estomac هو Le cœur، وليكن الأمر عندك أنت أو عند غيرك غير ذلك، فالأمر عنده سيان كما يفهمه،  ولو فهمه غيره على فهمه لانتهى الإشكال، القلب عنده L’estomac  وعندنا Le cœur وفي كل الأحوال هو قلب ولكن قبح الله الفرنسية بين قوسين وتواصلها البيداغوجي بلا قوسين؟.  

 

            ما أرعب هذا الفرض، الأستاذ الذي فرض عليه التعاقد.. الأستاذ الذي فرض عليه التقاعد.. التلميذ الذي فرضت عليه دراسة المواد العلمية ب Le français..  التلميذ الذي فرض عليه محشر الاكتظاظ.. والدراسة أحيانا في أجواء مشحونة بالشغب متوترة بالعنف متسترة عن ضعفها بالغش.. حذف الأفواج في المواد التجريبية في الاعدادي.. الأقسام المشتركة في الابتدائي.. ضعف وانعدام الوسائل التوضيحية.. غياب الوسائل التقنية والفرق الابداعية.. جنينية المواكبة الأسرية.. تهميش الدورات التكوينية وتعلم المهارات الحياتية والتربية على القيم والمواطنة والسلوك المدني..، ونريد ألا يخلط التلميذ بين القلب والمعدة وهو الذي من فقر المختبرات قد لا يكون شاهد القلب و المعدة إلا قلبه إذا خفق ومعدته إذا جاعت؟.

 

            إن السيد وزير التربية الوطنية قد صرح هذه السنة ببعض التصريحات الخطيرة والهامة في نفس الوقت، عندما قال : أن " 77% من تلاميذ الابتدائي لا يتقنون التعلمات المستهدفة في هذه المرحلة"، وهي فقط مهارة القراءة والكتابة والحساب والتعبير لا غير، أو عندما قال: " إن تعليم التلميذ بالحرف العربي والحرف الفرنسي والحرف الأمازيغي في نفس الوقت أمر صعب"، أو عندما قال مؤخرا: " أن الإصلاح رغم كل ما كان يصرف عليه من ميزانيات .. فإنه لم يدخل الفصول الدراسية بعد ولم يلامس واقع التلميذ ومعيقات تمدرسه"، وهذه جرأة لا مثيل لها ولا قبل للمنظومة بها، ويشكر عليها.. ولكن من جهة أخرى، هذا ما كان يقوله الأساتذة قبله وبعده ولا من يستمع إليهم؟.

 

            لابد من جرأة في القرار التربوي تكون على مستوى الجرأة في التصريح والتصحيح، وقد يقول قائل، ولكن الفرنسية في المغرب لا زالت.. ولا زالت.. ولا زالت طبقات من الناس يتحدثون بها.. يأكلون ويلبسون بها.. يقاولون ويشتغلون بها.. فأولا هذا خرق دستوري لا أدري متى سنخرج من متاهاته، ولكن، يظل الأمر من حقهم والاختيار اختيارهم، ولهم أن يتقنوا لغتهم المستعارة ويحذقوها كما يشاؤون، لكن أن يفرضوها على الأمة ككل فهذا أمر مرفوض، وهم الذين كافح أجدادهم فرنسا الاستعمارية بلا قيد ولا شرط وجاهدوا فيها جهادا كبيرا، اقروا حيثيات وأحداث 11 يناير التي نعيش ذكرها الوطنية الخالدة هذه الأيام، ستجدون من علماء المغرب المجاهدين من شدة غطرسة فرنسا ومساسها بالدين والهوية والوحدة والتنمية، من قال: " سأظل أكره فرنسا ما حييت، ووصيتي إلى أبناء بلدي وأحفادي أن يكون كذلك"؟.

 

            مسألة أخرى في إطار الإنصاف والموضوعية، ما سئل عنه التلاميذ في الامتحان جد بسيط يستطيع الإجابة عنه حتى من لم يلجوا أبواب المدرسة قط ربما بالصور فقط، وبالتالي نتساءل عن جدوى قضاء ما لا يقل عن تسع سنوات في التدريس الأساسي، وما حصيلة كل تلك السنوات أم أنها مجرد سنوات الضياع؟، ولكن، للموضوعية نتساءل أيضا عن الإشراف التربوي وغيابه الذي جعله لم يقف مثلا عند هذه الوضعيات التربوية ولم يشخصها أو يساهم في تجاوزها؟، ونتساءل أيضا عن غياب وارتجال الدعم التربوي الذي لم يعالج مثل هذه البياضات والتعثرات في حينها؟، ولن نتساءل عن الظروف التي يدرس فيها هذا التلميذ من.. ومن.. ومن.. وكل حصيلتها أنها جعلت من القلب معدة ومن الدماغ أمعاء وتفتخر؟. قد تسقط كل التساؤلات على أهميتها إلا سؤال لغة التدريس الذي أثبتت سنوات التعريب أن العربية وحدها قد عالجت العديد من النواقص وكان التلاميذ في عهدها - على الأقل - يسمون الأشياء بأسمائها؟.

 

            وأخيرا، لغة التدريس خيار إصلاحي وباب واسع ورافع من أبوابه، وأعتقد أن أبواب الإصلاح تستلزم الحوار والتعاون بين جميع الأطراف كل من مكانه وبإمكانه، ولنأخذ لغة التدريس في المملكة الشريفة مأخذ الجد والسيادة، بتفعيل قانون الإطار في الموضوع وهو الذي يتحدث بكل صراحة عن تنمية اللغة العربية والانفتاح على اللغات الحية الأخرى.. بالمناولة والتناوب اللغوي وليس بالتعويض كما يحدث الآن في هذا الانحراف والاجهاش اللغوي.. العربية يعني تدريس المواد العلمية بالعربية.. والمناولة أو التناوب اللغوي يعني إمكانية تدريس بعض المجزوءات من المواد العلمية بلغات أخرى وليس كل المجزوءات.. وليس اللغة الفرنسية بالذات، وخلاف ذلك لن يؤدي إلا إلى احتقار اللغة العربية في وطنها، مما سيفتح الباب على مصراعيه لأمواج عاتية جارفة من الاستلاب الفكري والأخلاقي والعلمي والإعلامي، وبعدها لا غرابة في أن تتدنى نتائج تلامذتنا ولا غرابة في أن يسموا لنا Le cœur ب L’estomac  و يسمون لنا  Le cerveau  ب  Les intestins أو حتى يعتقدون بذلك؟.

الحبيب عكي


اقرء المزيد

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

المشاركات الشائعة