خلط جلط المغربي،أو التناقضات المغربية الصارخة،والتي دأب عليها الناس في
حياة غريبة عجيبة،لا يزالون يخلطون فيها الظاهر بالخفي والمقصود بالعارض المشوش غير
المقصود،في محاولة "سيزيفية" غير يائسة للوصول إلى خلطة الخلطات تسعف
القوم في كل الأزمات وضد كل السكتات،وتكون لهم دواء لكل الجراح وبلسما في كل
الأفراح،لكنها هيهات هيهات فالوضوح لا يأتي إلا مما هو أوضح منه،والغموض لا يؤدي
إلا إلى ما هو أغمض منه،فإلى متى نقصد في رحلتنا الشمال ونحن متجهون نحو
الجنوب،وإلى متى نتجه بسفينتنا نحو الغرب ونحن نريد الشرق،إلى متى هذا الخلط الجلط
الذي علقم الدنيا في وجهنا،وكل مرة يقيمها ولا يقعدها إلا في الوحل والرمال بدل شط
النجاة والآمال؟؟.
1- خلط جلط الديني والسياسي: ذلك الشعار الذي طالما رفعه الجميع،وإن كان كل من جهته يعني به ما يعني،فمن
قائل:"لا للدين في السياسة"،ومن قائل:"لا للسياسة في الدين"،ومن
قائل :"من أجل سياسة دينية و دين سياسي"،ليبقى الأمر في الواقع كله خلط
جلط بين مرجعيات بعضها يعطي الأولوية للقرآن وبعضها للسلطان،فلا الدين يبتعد عن
السياسة ولا السياسة تبتعد عن الدين،والأسوأ في الأمر أن جوهر معظم الأمور في
الحقيقة صراع سياسي تنطبق عليه قواعد الدين"دفع المفاسد وجلب المصالح"،وفي
إطار اجتهادي"أنتم أدرى بأمر دنياكم"،ولكنه مع الأسف تغلف الأمور بطابع
ديني صرف وغير عقلاني،ولنأخذ العدالة الاجتماعية مثلا،أو الإصلاح ومحاربة الفساد
والتحكم والريع والاستبداد،أو الدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،أو
الوقوف في وجه التطبيع مع التخلف والانحرافات،هي أمور سياسية منذ الأزل والناس كل
الناس يتحدثون عنها ويتدافعون حولها بما فيهم "الشيوخ العلماء" و"الراقصات
العوالم"،أفإن تحدث عنها اليوم رجل متدين أو امرأة ملتزمة وقال أن هناك خللا
ينبغي أن يصحح،قيل له راجع تدينك وأصلح التزامك أولا،حقا أنه خلط جلط المغربي الذي
يستوعب الجميع؟؟.
2- خلط جلط المحاسبة والاستهداف:فالمحاسبة تقتضي المسؤولية،والمسؤولية تقتضي
دفتر تحملات واضح،ويبقى صاحبها بريئا حتى تثبت إدانته،أما الاستهداف فضحيته متهم
مسبقا،ولابد من الإيقاع به بحجة أو بغير حجة،بل كل دليل منه أو من غيره فهو ضده
ولو كان في صالحه،الاستهداف هو الانتقاء هو الانتقام بسم المحاسبة،هو التشهير والتشنيع
دون حق الرد والدفاع،هو البحث المجاني عن كبش فداء لا ينطح غير المساكين الأبرياء،في
حين أن قرونه المصمتة الطويلة تتكسر من طرف المسؤولين الحقيقيين عن تفاقم الأزمات
ودوام الاختلاسات وانحراف السياسات،ورغم ذلك ينسلون مهنا بقدرة قادر كما تنسل الشعرة
من العجين،بل ربما يرقون في الحال أعلى الترقيات، ولا يطالهم طائل رغم وقوعهم تحت كل
الطوائل؟؟،لعبة سخيفة وقديمة لا تنطلي حتى على أصحابها الذين لا يملون من تكرارها
مع كل معارض وكل مجاهد وكل مناضل وكل جامعي وكل حراكي..وكل..وكل..،فما المانع من
تكرارها مع ماء العينين وصمغ الأذنين وحمرة الخدين وغطاء الرأس والعنق والصدر
والنهدين وأظافر اليدين وجوارب القدمين؟؟.
3- خلط جلط الحزبي والمخزني:المخزني الذي لا يرى حياته إلا بأحزاب سياسية حية وحرة أغلبية ومعارضة،وإذ
به لا يكف عن توالدها و فطمها ورضاعتها والسخاء في دعمها وبرمجة معظم أمرها،وحتى
من ولدت خارج هندسته و دهاليزه لا يكف عن
ترويضها وجعلها مجرد دكاكين سياسية موسمية،ومقاولات ريعية لشراء الذمم
والولاء والتبوريض الفانطازي في المؤسسات ليس إلا،وبما أن الطعم ولاف،فسرعان ما انغمست
هذه الأحزاب في تذوق كعك اللعبة و حذقت قواعدها،فأصبحت عوض أن تقود عملية الإصلاح التي
كانت مبرر وجودها وتساهم فيها بشكل نضالي،أصبحت مع الأسف غالبا ما تدخل في معارك هامشية
لكنها طاحنة ومعمرة كمعارك داحس والغبراء،غالبا ما تكون بينها ولا تتعداها إلى
غيرها وكأنها هي رأس التحكم والفساد وساحتها ساحة محاربة الريع والاستبداد؟؟،أضف
إلى ذلك خلط جلط الشخصنة التي لا تزال طاغية في مؤسساتنا إلى درجة كبيرة قد تختزل
فيه كل الهيئة في الشخص ويعتبر فيه الشخص هو ذات الهيئة لا مجرد عضو فيها،شخصنة
بعيدة عن روح المؤسسة والقوانين والتشريعات،وبنفس المنطق مع الأسف،لا زال المخزن يواجه بعض مؤسسات الأحزاب في أشخاصها
المناضلين وزعاماتها التاريخية،بعيدا عن المرجعيات والأدبيات الحزبية وحتى تقارير
المؤتمرات الرسمية والمواقف الجماعية،التي سرعان ما قد يتنكر لها إذا ما رأى نفاذ
بطارية صاحبها وضعف محركه أو ضرورة استبدالهما بأفضل منهما؟؟،
4- وأخيرا،خلط جلط الالتزام والحرية
الشخصية: وهو خلط جلط من نوع آخر،وأبطاله ممن يخلط
عليهم ويجلط وإذ بهم هذه المرة هم من يخلطون ويجلطون،أحيانا بكل عفوية وسذاجة
وأحيانا أخرى عن قصد وإصرار وتحدي الشخص الذي لا يبالي بالآخرين،بل ويرى انتصاره
في تجاهل رأيهم وكسر قيدهم،هذا رغم ما يدعون من أنهم ملتزمون بالقوانين الشرعية
كمرجعية حاكمة،ولهم انتماء ملزم ومصيري أمام الله،ثم أنهم لا يتنكرون للقوانين
الوضعية والإجماع الوطني لممارسة اللعبة وإدارة المؤسسات وتحمل المسؤوليات،ولكن لا
ينفي كل ذلك حريتهم الشخصية في بعض المواقف والسلوكات التي سرعان ما تتحول بواعثها
عندهم إلى فتاوي شخصية وقرارات تنفيذية محسومة وغير قابلة للنقاش،ما دامت تلزمهم
هم قبل غيرهم،وما داموا ينظرون إليها على أنها منسجمة غير مضطربة،وهي في الحقيقة
قد تكون غارقة في الاضطراب،لكنها عندهم إن لم تحقق المصلحة العامة فيكفي أنها تحقق
لهم الحرية الشخصية والمصلحة الفردية،أو ربما حاجة ضرورية لا يدري بها غيرهم،أو
ربما نزوة عابرة أو مجرد ضعف يعتري صاحبها كما يعتري كل الناس؟؟،
ويبقى الأمر على كل حال خلط جلط،لأن المسؤول
ينبغي أن يكون مسؤولا،وأن تتوقف حريته عند حقوق الآخرين ومراعاة مشاعرهم ومعتقداتهم
والتزاماتهم وإلا استنكف عن خدمتهم وتولي مسؤولياتهم وإدارة مؤسساتهم،وإلا فلا
يستغرب بعدها إذا تساءل المتسائلون مثلا:"لمن يجمع الإخوان اليوم أموال
رواتبهم العليا؟،ولمن يكونون ثروات فتراتهم أثناء ممارسة الشأن العام؟،ومن سيتقاضى
معاشاتهم المعتبرة وربما الاستثنائية فيما مروا منه من مناصب الدولة؟؟،لماذا يغير
بعضهم بلد دراسة أبنائهم إلى خارج الوطن،ولماذا يجدد ويوسع بعضهم مساكنهم،وبعضهم
يغيرون ويعددون زوجاتهم كما يغيرون ويعددون سياراتهم؟؟،وهل هذا من مستلزمات
المصلحة العامة،أم من مقام لا تنسى نصيبك من الدنيا،والله يحب أن يرى أثر نعمته
على عبده؟؟.خلط جلط يومي يخلط كثيرا من الأمور في حياتنا،فيرد الأبيض أسودا
والأسود أبيضا،في فتنة تدع الحليم حيران،الدين سياسة والسياسة محاسبة واستهداف
وانتقام وضرب تحت الحزام،فاضرب واضرب المقيد حتى يخاف الطليق؟؟،إنه خلط جلط لن يفكنا منها
غير الوضوح والشجاعة لتسمية الأشياء بمسمياتها ومواجهتها بكل تجرد ومسؤولية،وليس
بمنطق الحرب خدعة والسياسة مناورة وطلاسم،وفي انتظار ذلك سيبقى بوعشرة وبوعشرين
وعبد الله وعبد الرحمان وعبد العالي ونادية وفادية وأمل وأمينة وسوسو
وسوسن...،مشرع عليهم كل جحيم المناورات،مقذوفة في وجوههم كل حمم الطلاسم إلى إشعار
آخر،ومن يدري ربما يعود الجميع إلى رشده فيكون قريبا،و ربما يتمادى الجميع في غيه
فيكون أيضا قريبا؟؟،
الحبيب عكي