معه أو ضده،فقد عرف اليسار المغربي عبر تاريخه بأهم ميزة في تاريخ
الشعوب،شكلت وتشكل إلى اليوم حجر الزاوية في بنائها وتقدمها،ألا وهي ميزة النضال والنضال
القوي والمستمر والمثمر و على العديد من المستويات،لاشك وأن غيابه اليوم أو تراجعه
أو تشويهه كما يقول"مجاهد"من أمانة الاشتراكي الموحد،أصبح هو السبب في
العديد من الاضطرابات والمتاهات التي يتخبط فيها المجتمع المغربي:
1-
تراجع في نضال مخالطة المجتمع ومعانقة همومه والتعبير عن ألامه وآماله،انتهى
بالعديدين من المناضلين إلى مجرد اللجوء إلى المقاهي والنضال في احتساء فناجينها
المرة وحرق أجوافهم بدخان سجائرها السامة؟؟.
2-
بهوت في نضال الجانب الثقافي ونشر الوعي والمعرفة وما رافق ذلك من التنافس
على قراءة العديد من الكتب وتنظيم أنشطة ثقافية مكثفة ذات صراع إيديولوجي كان قد
طرح ويطرح السؤال التحرري والنهضوي بقوة؟؟.
3-
اضمحلال النضال على المستوى النقابي والطبقة العاملة على مختلف مستوياتها
استطاعت في أوجها وغير ما مرة أن تشل الحركة الإنتاجية عبر الوطن،وأن تحقق من
المكاسب مـــــا تراجع ويتراجع اليوم بشكل خطير؟؟.
4-
تراجع في نضال تأطير الشباب واتقاد وعيه وإنعاش أحلامه،وإدماجه في الحركة
التغييرية الوطنية والنخبة الطلائعية خاصة على مستوى اتحاد طلبة المغرب في الجامعة
والأطر الخريجة منها وجلها من موظفي الدولة؟؟.
5-
نضال حقوقي بمرجعية كونية وخلفية حداثية تتجاوز تحفظات المحافظين، وقد أجبر
الدولة على إحداث الوزارة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم،وان
تفنن المتسلطون في استمرار تسلطهم بالأشكال والألوان؟؟.
6-
نضال إعلامي لا مثيل له إلى درجة أنك قد تجد حزبا سياسيا في مجرد جريدة
يومية أو أسبوعية،وإلى درجة أن الدولة نفسها قد تجدها تعد تقاريرها من ملفات مثل تلك الجرائد وهي تعلم
علم اليقين أنها لسان حال المعارضة؟؟.
اليوم تراجع اليسار وتهاوى في
العديد من قلاعه، و في أحسن الأحوال يبدو كالطير الجريح الذي يقاوم نزعه وحيدا في الخلاء يؤذي
نفسه ولا يكاد يدور إلا حولها وكله وهم على أنه معافى وفي معركته وطرحه لا يضاهى،وكل
ذلك نتيجة ظروف ذاتية(التشرذم وطبيعة التنظيم) وشخصانية(الاسترزاق والوصولية) إلى
درجة أصبح فيها مناضلو وثوريو الأمس على حد قولهم مجرد وزراء وسفراء ومدراء و
موظفين في خدمة الدولة لا يملكون غير السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر التي طالما
ادعوا أنها رجعية وإقطاعية؟؟،أضف إلى ذلك الظرف الدولي المتمثل في (سقوط جدار برلين
وتراجع المعسكر الشرقي) وظهور النظام الليبرالي الغربي الأمريكي الذي سيطر ويسيطر
على كل شيء بالقوة،وأضف إلى ذلك أيضا غرابة المشروع اليساري في حد ذاته عن هوية
الشعب واصطدامه معها في العديد من الأمور؟؟،مما جعله يفشل ولا زال يفشل بذريعة في
العديد من المعارك والاستحقاقات وانمحت أثاره في العديد من الفضاءات والمؤسسات...،رغم
ما يحمله أو يبشر به من قيم الحرية والنضال السياسي والعدالة الاجتماعية؟؟،ولأن
موجة التهاوي لا تزال ساحقة وجارفة،ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ،فقد طفا على السطح
اليوم بديلان أحلاهما مر،الإسلاميون وهم من طينة أخرى ونضالهم من نوع آخر وبمرجعية
وهوية أخرى،لاشك أنه يتقاطع مع نضال اليساريين في مجالات،ولكنه يبني على أنقاضهم
في مجالات،خاصة نضال الهوية والمرجعية والقيم العقلانية والأخلاقية...،وهكذا يبدو
أن الإسلاميين قد أبلوا البلاء الحسن في مصالحة الشعب مع الهوية والمرجعية والقيم
الأخلاقية،وحققوا الشيء الكثير في الاهتمام بالعمل الاجتماعي وخدمات الطبقات الهشة
والمهمشة من الأرامل والمطلقات والطلبة والمتقاعدين والمعطلين المتعاقدين...،بل
حتى في تأطير الشباب وإدماجهم في العمل الحزبي السياسي والعمل الجمعوي
الخدماتي،لكن على مستوى بقية المجالات والأعمدة المجتمعية،من النضالات الثقافية
والنقابية والحقوقية والإعلامية فلا زالت الهوة جد سحيقة والحاجة المجتمعية جد
كبيرة؟؟.
أما الدولة مع الأسف وفي رأي العديد من السياسيين والمتتبعين والباحثين فلم
تكن في مستوى اللحظة التاريخية الكبرى للبناء المجتمعي السليم من الاستقلال إلى
اليوم، وقد فشلت في تحقيق الاستقرار الحقيقي والتنمية المجالية والمستدامة للعديد
من الفئات الاجتماعية التي لا تزال مسحوقة ومطحونة رغم كل شيء،وطوال كل هذه العقود
ورغم كل الجهود الجبارة والروتوشات الإصلاحية و الخطابات الرسمية، فلا تزال الدولة
على وجهها الحقيقي و سياستها المخزنية التسلطية والاستفرادية بالقرار الحاسم،ما
ناضل ولا زال يناضل ضده الجميع،ومن ذلك مثلا: تمييع مؤسسات الإصلاح كالبرلمان،وصنع
الأحزاب السياسية والخرائط الانتخابية،والسيطرة على كل شيء في المشهد الإعلامي رغم
خطابات الديمقراطية وحقوق الإنسان،غياب العدالة في توزيع الثروة وتشغيل الشباب
الموجز والعاطل،الاستفراد بالقرار في القضايا الحاسمة رغم المقاربة التشاركية،مما
أدى و يؤدي بالأخص إلى استمرار وتفاقم الأزمة في العديد من القطاعات الخدماتية
للمجتمع كالصحة والتعليم والتشغيل والسكن...ودون أفق مرئي أو على الأصح جامع ومقنع؟؟.
النتيجة أن حالتنا المجتمعية المغربية وبقدر ما فيها والحمد لله من
اجتهادات ومجهودات الاستقرار والأمن الروحي والمادي للمواطنين،بقدر ما فيها من
نتوءات غير عادية تنخر ذلك:"حراكات احتجاجية اجتماعية متتالية في الحواضر
والبوادي...فقدان الثقة في الوسطاء السياسيين من الأحزاب والمنتخبين وتفلت المجتمع
من تأطيرهم وسآمتهم من خطاباتهم الفارغة...تنامي الحركة المجتمعية المدنية
الترافعية الفردية والجماعية دون
جدوى...العجز عن صياغة بدائل تنموية عادلة مجالية ومستدامة رغم مشروع الجهوية
الموسعة والمغرب الأخضر و وكالات التنمية...،ارتفاع منسوب اليأس والإحباط خاصة عند
الشباب وما يؤدي إليه من الهجرة القسرية والسرية والاستلاب والميوعة والعنف
والتطرف واللامبالاة بأي شيء...وأكل الغلة وسب الملة والدين والوالدين؟؟.لذا فنداء
الوطن قد نادي وينادي اليوم من جديد،نحو مسيرة وطنية تنموية أهم معالمها ومناراتها
الإصلاحية الملكية الدستورية التي تستوعب الجميع،والديمقراطية الاجتماعية التي
تحترم الإرادة الشعبية وتلازمها التنمية الحقيقية والمعيارية، وكتلة وطنية إصلاحية
تحمل أجوبة واضحة حول أسئلة المغرب المعاصر الديمقراطية والتنموية و الوحدوية والعدالية
والأمنية...،لا خلاف بينها حول الهوية والمرجعية،ولا حول النموذج التنموي المنشود
برامج ومخططات جودة ومعايير،أزمنة وأمكنة مواعيد ومؤشرات..،فهل بدأت بعض ملامح هذا
في التجربة السياسية الأخير للحزب العدالي الحاكم،وهل فعلا يمكن ترسيخه أكثر من
خلال المجالس الترابية الجماعية منها والجهوية والاتحادات الجمعوية المدنية
المتعددة والمنفتحة والمتعاونة؟؟،نرجو ذلك والله الموفق؟؟.
الحبيب عكي