النموذج التنموي بين تثمين الموروث الحضاري والانفتاح على المشترك الإنساني
لا زالت النماذج التنموية في العديد من الدول الناهضة تراوح مكانها إن لم
نقل أنها قد باءت بالفشل والفشل الذريع،ذلك أنها قد ذهبت في الحقيقة ضحية المصطلح
بالدرجة الأولى قبل غيره من الإمكانيات والإرادات والمخططات والحكامات..،فعندما
ينوي بلد من هذه البلدان أن يخوض غمار التنمية ويضع لها مخططاتها وبرامجها،كثيرا
ما تشوش عليه مصطلحات مماثلة براقة ولكنها قليلا ما تمت للتنمية بصلة إن لم نقل
أنها مناقضة لها بالتمام،وإن بدا فيها من روائح التنمية العطرة وصورها الزكية ما
بدا،وهذا ما نجده فعلا في مصطلحات التغيير والإصلاح والثورة والتحديث والتجديد
والتطوير..،مصطلحات غالبا ما تنتهي في أغلب الأحوال إلى مجرد التغريب والتبعية أو
التمدن والمكننة أو العولمة المتوحشة التي تنتهي بدورها إلى مجرد الفرنسة المتخلفة
المجانية أو الأمركة الاستيطانية والعابرة للقارات؟؟.
هكذا وبكل بساطة،تفشل العديد من المشاريع التنموية رغم كل البهرجة والدعاية
المغلفة بضجيج الأرقام الضخمة وصخب الخطب العصماء من فوق البنايات الشاهقة،لا
لشيء إلا لأنها حاولت استنساخ نموذجها التنموي واستنباته في أرض غير أرضها وبين
قوم ليسوا هم قومها،وكأننا أمة لقيطة معدومة؟؟،نحن لسنا أمة نشأت من فراغ ولسنا
أمة معدومة،نحن والحمد لله أمة غنية بتراثها الحضاري،متجذرة في أعماق التاريخ،وكان
لنا من النماذج التنموية الشاملة والعادلة والمثمرة والمزهرة ما اكتسح العالم قرونا
من الزمن ونهض بالأمم من قاعها ولا زال يحن إليه أهلها،نماذج في القيم والأخلاق
الراقية،نماذج في الطهارة و الري والفلاحة والتجارة والصناعة،في المواطنة الصادقة
والتضحية الجهادية من أجلها،نماذج في العدل والفضاء والتضامن والتماسك
الاجتماعي،في تكريم المرأة والسعي على الفقراء والمحتاجين،نماذج لازالت أشكال بناء
قصورنا ومداشرنا الجامعة الشاسعة تشهد
عليه،والمعمرين من شيوخنا كل يوم يروون عنه بفخر ويتحسرون على تراجعه بمرارة؟؟،
لا أحد يستطيع أن يقنعنا اليوم بأن نموذجنا المعاصر الأناني والفرداني (باباك
راسك) أفضل من نموذجنا التراثي القديم بما يحمله من قيم التضامن والعيش الجماعي
الذي يعم خيره بل تطوعه،بل وقفه حتى الغرباء واللقطاء والطيور والفرسان في الزمان
والمكان؟؟.من هنا وجب على هذا النموذج التنموي الجديد إحياء هذا التراث والاستفادة
من جوانبه المضيئة والمتجذرة وإن بأشكال وإخراجات معاصرة،وكل استغناء عن هذا هو في
الحقيقة استغناء عن روح الأمة والسعي بها إلى أن تصبح مجرد أجساد طينية وديدان أرضية
همها ما تملؤ به بطنها أم تمتع به فرجها،أو مجرد آلات بشرية مستهلكة هالكة
مهلوكة؟؟،وهذا في نفس الوقت لا يعني الانحسار في الماضي و عيش الحاضر في مجرد
ظلاله،بل لابد من الانفتاح على العصر وتقنياته وإنجازاته وخاصة ما يندرج منها في
إطار المشترك الإنساني والذي يتناغم مع تراثنا الحضاري وقيم هويتنا وكينونتنا وما
تدعو إليه من التيسير على الخلق والإتقان في العمل والتعايش مع الآخر،وما يمكن أن
يغني ويطورها مثل هذا دون تغيير قسري أو تشويه إلى النقيض النقيض، فأتعس ما يتعس
الإنسان أن يتواجد قسرا في مكان غير مكانه(كل منقالة مذبالة..كل ميتة مزبالة)؟؟.
هكذا إذن،ينبغي للتراث الحضاري أن يأخذ مكانه في النموذج التنموي الجديد،فلا
تكون سياسة الإجهاز عليه أو فولكلوريته وتزييفه هي السائدة،فتلك سياسة مفلسة ستكون
أكبر مانع لدى المواطن للانخراط في كذا مشروع تنموي أو التحمس له، بل أكبر عامل
لرفضه ومقاومته وبالتالي فشله وإفشاله؟؟،هل يعقل مثلا..بسم ..وبسم ..وبسم
..استبدال العلاقة الشرعية المحترمة بين الزوجين أو بين الآباء والأبناء أو بين
المشغلين والمستخدمين،بغيرها من بلاوي العلاقات العصرية الرضائية والمشاعية
والعرفية والمتعية والصراعية و..و..و..؟؟، قد ينبغي تجويدها وتأصيلها وتحديثها،ممكن؟؟.كما
ينبغي للحياة المعاصرة أن تجد مكانها في تنميتنا دون الانغماس في مطباتها من النفس
الاستهلاكي والروح الرافضة للآخر غير الغربي و الأمريكي،لا للحرية غير المسؤولة
ولا لنزعة الحقوق دون الواجبات..ولا للفساد والاستبداد،نعم للفرد وسط الجماعة ونعم
للعلوم والأدب والفنون بالقيم والأخلاق،نعم للإبداع والحرية المسؤولة...نعم للسلوك
المدني المتحضر..للحقوق والواجبات..للقيم والأخلاق..نعم...نعم..؟؟،وإن استقراء النماذج
التنموية الناجحة اليوم،لنجد أن هذا ديدنها
وسر نجاحها وإكسير حياتها وتجددها..الجمع الحقيقي بين التراث والحداثة في
خلطة واحدة،خلطة الفرد والجماعة،خلطة العدل والانصاف،خلطة الكم
والكيف،خلطة..خلطة..خلطة..،وتلك هي الخلطة التنموية السهلة الممتنعة؟؟.
الحبيب عكي