لقد سبق
للمجلس الوطني لحقوق الإنسان (CNDH)، أن رفع مذكرة إلى رئيس الحكومة آنذاك في نونبر 2015، مذكرة حول
حرية الجمعيات وأوضاع العمل الجمعوي بالمملكة، وقد دبجها في البداية بأسباب رفع
المذكرة ومرجعياتها الحقوقية الوطنية والدولية، ثم أدوار العمل الجمعوي كما هو
متعارف عليه دوليا والتي يطمح نسيجنا الجمعوي أن يصطبغ بجزء منها، كما أن المذكرة
من جهة أخرى، تشخص بدقة متناهية أوضاع الجمعيات في المغرب وما يعوق سيرها نحو
تأدية هذه الأدوار الطلائعية الوطنية والكونية، خاصة من ناحية بعض الحواجز الجوهرية
قديمة جديدة ومستدامة وعلى رأسها:
1-
إشكالات التأسيس
2-
إشكالات التمويل
3-
إشكالات الأدوار بين التبعية والاستقلالية
4-
إشكالات الشراكة
5-
التوصيات
وتكتسي هذه المذكرة أهمية بالغة بما ترومه من الوقوف على
نقط جوهرية تبين حقيقة العمل الجمعوي ببلدنا من صوريته وزيفه، بل عرقلته ومنعه
أحيانا. وهي مذكرة تروم أيضا مدى مراقبة القوانين الجمعوية بشكل خاص والحريات
العامة بشكل عام والعمل على تجديدها وتكييفها لتلائم الواقع الجديد للجمعيات
والمعيارية الحقوقية الكونية كما يقر بها الدستور 2011. كما تروم إبداء الرأي
الحقوقي الاستشاري ورفع التوصيات بشأن ما حدث ويحدث في هذا المجال الحيوي، كما
تراهن بشكل عام على الرقي بالحريات الجمعوية إلى مصاف حقوق الإنسان الأساسية والتي
يجسد مدى احترامها مدى احترام المشاركة الفعلية للجمعويين والمدنيين في شأن بلادهم
وديمقراطيتها.
ولكن، كيف سندعي هذا الحق في التعبير والمشاركة في
التغيير وتدافع قوى الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية وتكاملهما، إذا
لم تستطع جمعياتنا ممارسة أنشطتها القانونية المحلية والوطنية والدولية بكل سلاسة
وترحيب وتحفيز، فبالأحرى التظاهر السلمي للتعبير عن قضايا المواطنين والوساطة
بينهم وبين المسؤولين؟، إذا لم تستطع التغلب على الإكراهات القانونية والعملية
التي تعيق وتحد من القيام بدورها لتبقى مجرد هيئات صورية أو تأثيثية تحت الطلب
المناسباتي؟. بعيدة عن أدوار الجمعيات الحقيقية عبر العالم من القوة الاقتراحية
الجادة والترافع والتدافع عن قضايا الناس والوساطة لهم عند التوترات والأزمات، ومساعدة
الفئات الهشة وتقديم الدعم للمحتاجين، وغيرها من خدمات وأنشطة نشر الثقافة
الحقوقية ومكافحة التمييز والاتجار في البشر، قضايا القيم والهوية والمرجعية، حماية
المستهلك ومحاربة الفساد والمساهمة في تنمية الصحة والتمدرس والبيئة..؟.
ومن الإشكالات التي ركزت عليها المذكرة والتي تراها تعرقل
العمل الجمعوي في المملكة إلى حد كبير، نذكر ما يلي:
1- إشكالات
التأسيس: وهي مطروحة لعقود مضت
وتزداد اليوم حدة من طرف بعض السلطات وما تتصرف به ضد الدستور الجديد الذي ارتقى
بالعمل الجمعوي إلى مصاف الشريك الأساسي في الديمقراطية التشاركية ويحمي حقوقه
بالعديد من الفصول (1 و6 و13 و14 و 15 و 136 و 139..)، كما تحميها فوق ذلك المواد الحقوقية الدولية
وعلى رأسها: المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 21 من العهد
الدولي للحقوق الأساسية السياسية والاقتصادية، والمادة 5 من الاتفاقية الخاصة
بالقضاء على كل أشكال التمييز، والمادة 15 من اتفاقية حقوق الطفل، والمادة 26 و40
من الاتفاقية الدولية لحقوق العمال والمهاجرين..؟.
والمفروض أن حق تأسيس الجمعيات وحريتها في ذلك، إنما هو
تجسيد للحق في حرية التعبير والمشاركة في التغيير وحق التجمع في هيئات ومنظمات لتدبير
ذلك، والمفروض كذلك أن القبول بتأسيس جمعية إنما هو قبول صريح بأنها قانونية
وأنشطتها وفق قانونها الأساسي كذلك قانونية ومن حقها أن تمارسها وفق القانون ودون
عرقلة فبالأحرى المنع الذي لا مبرر له ويعتبر شططا واضحا؟. ثم هل يمكن القبول
بتأسيس جمعية دون أن تكون مستقلة عن السلطة ؟، وأي مبرر لوجودها إذا كانت هذه
الأخيرة مثلا أو غيرها يتدخل في تركيبة مكتبها أو وضع برامجها أو تنفيذ أنشطتها؟. أضف
إلى ذلك، أي معنى لاستقلاليتها إذا كانت الجمعية غير قادرة من التحرر مما قد
يطالها من شطط استعمال السلطة رغم حماية القانون لها من ذلك (المادة 22 من العهد
الدولي)؟.
2- إشكالات
التمويل: وهي إشكالات مزمنة
ويعاني منها جل الطيف الجمعوي على اختلاف أهدافه ومشاربه وطاقاته، وعبثا نحاول
ادعاء التوفر على نسيج جمعوي وطني ما لم تعالج حدة هذا الإشكال، الذي يؤثر في
الحقيقة بكل السلب على تكوين الجمعية في حد ذاتها كل رصيدها المالي صفر درهم؟. على
استدامة الجمعية وقيامها بأنشطتها التي تتكسر على الصخرة الصماء لقلة الموارد وكصرة
التكاليف، على استقلاليتها وعدم تورطها في الارتهان لمن هب ودب من داعم بأجندته،
جهة داخلية أو خارجية كانت؟. وكل تضييق على الموارد المالية المتاحة للجمعيات على
قلتها وشحها هو تضييق على كل ما سبق. بل تضييق في الحقيقة على نيل المستفيدين
والمستهدفين من المواطنين لحقهم من الخدمات والمساعدات المدنية التي يضمنها لهم
الدستور ويعتبرها من حقوق الإنسان، فقط، مع ما يجب التنبيه إليه من أن الجمعية
ملزمة باستعمال أموالها في ما رصدت له وبكل شفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة؟.
3- إشكالات
الأدوار بين التبعية والاستقلالية: الاستقلالية كما يتحقق لجمعيات المجتمع المدني في
مختلف دول العالم، مما جعلها تقوم بأدوار تنموية واجتماعية حقيقية، كالدفاع عن
الثقافة الحقوقية ونشرها.. مكافحة جميع أشكال التمييز.. الدفاع عن الانصاف وجبر
الضرر.. محاربة المخدرات والاتجار في البشر.. محاربة التطرف والإرهاب.. محاربة
الفساد.. حماية المستهلك.. النهوض بحقوق الطفل وتأطير الشباب.. النهوض بالتشغيل
والاقتصاد الاجتماعي.. المساهمة في تنمية الصحة والتعليم والبيئة والترفيه
الهادف..؟. فهل يمكن القيام بهذه الأدوار الرائدة والطلائعية دون بعض ما يراه
المنتظم الدولي الحقوقي كاللجنة الأوروبية للديمقراطية (لجنة البندقية) أو مكتب
المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان)، وعلى رأس ذلك:
1-
ضرورة قرينة قانونية تسهل أهداف وأنشطة الجمعيات، نوعها
وشكلها حجمها ومداها.
2-
التزام الدولة باحترام حرية تأسيس الجمعيات والانخراط
فيها وحق ممـــارسة أنشطتها.
3-
المساواة في التعامل بين الجمعيات وعدم التمييز بينها.
4-
حرية طلب وتلقي واستعمال كافة الموارد المالية المتاحة.
5-
شرعية ومشروعية التقييدات المستعملة في المجال
وتناسبيتها.
6-
الحق في انتصاف فعال لصالح الجمعيات في حال انتهاك
حقوقها.
وهذا ما
ذهب إليه الاجتهاد القضائي المغربي، إذ قضى بالإجماع بالطابع التصريحي لنظام تأسيس
الجمعيات، ووحدها المحاكم الإدارية من تقوم بشكل ممنهج بإلغاء كل شطط باستعمال
السلطة يتجاوز تلقي التصريح بتأسيس الجمعية أو تجديدها، كما أن رفض السلطة تسليم
الوصل المؤقت يعتبره القضاء قرارا مشوبا بعيب عدم الشرعية، مرتبا عليه مسؤولية على
الدولة في شخص وزيرها في العدل، وموجبا للتعويض لصالح الجمعية (قرارات العديد من
محاكم المملكة في الموضوع). لأن السلطة الإدارية ليست مسؤولة عن شرعية الجموع
العامة (وهي مسؤولية القضاء) وإنما هي مسؤولة فقط على مدى استيفاء الجمعية لوثائق
التصريح عند التأسيس أو التجديد، يتسلمها المسؤول الإداري مقابل وصل مؤقت، ولكن، شتان
ما بين القانون وما يصطدم به الناس في الواقع؟.
4- إشكالات
الشراكة: وهي لا تزال في مجملها
شراكة إذعان بين طرفين غير متكافئين، لا في الطرح والاقتراح ولا في الرفض والقبول،
شراكة طلب العروض وفق دفتر تحملات تفرضه الجهة الداعمة وحدها لتبقى الجمعية مجرد
سخرة لهيئة حكومية كانت أو مجلسا جماعيا..، شراكة دعم مالي هو في الحقيقة أقرب إلى
المنة والريع منه إلى ميزانية تنموية للتعاون على حل معضلات الساكنة والتخفيف من
أزماتها..، وفوق ذلك هي شراكات تلفها حساسيات حزبية وإيديولوجية بغيضة (فرصة
وأوراش وانطلاقة نموذجا) لا ميزانيات أبقت ولا تنمية حققت ولا شفافية أو قبول
جمعوي من كل الأطياف؟.
5-
التوصيات: وهي مرتبة وفق أبواب خاصة نورد منها بشكل عام ما يلي:
1- ضرورة احترام حرية وحق تأسيس الجمعيات والانخراط فيها والقيام
بأنشطتها.
2- ضرورة استقلالية الجمعيات وعدم الضغط عليها من طرف أي
جهة وبأي شكل من الأشكال.
3- إضافة إمكانية إيداع تصريح التأسيس والتجديد إلكترونيا،
يضاف ذلك إلى المادة رقم 5.
4- إعفاء وثائق الجمعيات من واجب التنبر عند المصادقة.
5- إعداد دليل المؤسسات وكيفية الحصول منها على الدعم.
6- إحداث إطار قانوني ينظم
العمل التطوعي في الجمعيـــات.
7- تمكين الجمعيات من
انتصابها كطرف مدني لدى المحاكم في ما يخصها من القضايا.
8- حق الجمعيات في الإعلام
الوطني.
9- المنفعة العامة حق جميع
الجمعيات لأنها لا تعمل إلا في المصلحة العامة بشكل أو بآخر.
10- حق فتح حساب بنكي للجمعية
بالوصل المؤقت.
11- وضع سجل وطني للجمعيات.
12- تمكين الجمعيات من
استعمال القاعات والفضاءات العمومية.
13- تجنب التأخير في معالجة
وتسوية ملفــات فروع الجمعيات الوطنية.
14- إحداث بوابة إلكترونية
بتمويلات الحكومة والمؤسسات ومشاريعها.
15- تشجيع الجمعيات العاملة
مع بعض الفئات الخاصة وفي بعض المناطق الخاصة وفي قضايا وطنية ذات أولوية.
16- تفعيل توصيات الحوار
الوطني حول المجتمع المدني وقد شارك فيه المجلس الوطني لحقوق الانسان.
17- تفعيل الأدوار الدستورية
الجديدة للمجتمع المدني كإحداث المجلس الأعلى للشباب والعمل الجمعوي وتنظيم
التشاور العمومي...
أخيرا، يتساءل المرء ماذا تحقق من هذه التوصيات
وقد أوشك عمرها على عقد من الزمن؟، فمن غير البوابة الإلكترونية للشراكات وإعفاء
وثائق الجمعيات من التنبر وقانون الإحسان العمومي المقيد 18.18، لا تزال مجمل
التوصيات لها ما يبرر ضرورة الالتفات إليها والبحث عن المناسب من الحلول لها، وإلا
فإن الفاعل المدني يتساءل أيضا ما فائدة مذكرات وتوصيات وملتمسات لا يلتفت إليها
ولو على عقود؟. فرغم روح المواطنة البناءة والخصال التي أشاد بها خطاب العرش
التاريخي لسنة 2000 في حق النسيج الجمعوي الوطني وقدراته الكبرى للمساهمة في
التنمية حيث قال: "وإننا لنشيد بالدور الفاعل للمجتمع المدني
الذي أبان عن انخراطه الفاعل في محاربة الفقر والتلوث والأمية مما يجعلنا ندعو
السلطات العمومية والجماعات المحلية وسائر المؤسسات العامة والخاصة إلى أن تعقد
معه كل أنواع الشراكة وتمده بجميع أشكال المساعدة. وإننا لجد معتزين بتعاطي نخبة
المجتمع المدني للشأن العام والعمل الجمعوي والاهتمام بمجالات كانت إلى حد كبير
ملقاة على عاتق الدولة لوحدها مما يعد مؤشرا على نضج الشعب وقواه الحية". رغم كل هذا فالطاقة المدنية الهائلة لا زالت
تعاني من قوانين ومعاملات وموارد..، ولعل تفعيل مثل هذه التوصيات في السياسات
العمومية للحكومات المتعاقبة سيكون الباب الواسع والحقيقي لفعل جمعوي وطني تنموي بتطلعات
بحجم تطلعات الوطن وتحدياته ورهاناته، فمتى سيتم ذلك؟.
الحبيب عكي