كثيرة هي
الأعمال التي تفسد الذوق وتسيء إلى القيم الفطرية والأصيلة للإنسان، ومع
ذلك تملأ عليك الدنيا طولا وعرضا، وصباح مساء، تعرضها عليك منصات
العرض السفيهة والتافهة، وأنت بفطرتك وذوقك السليم تأبى إلا أن ترفضها وتعرض
عنها بقوة وتعيش بلاها وكفى، ولكن في الحقيقة، تبقي نفسك في
عمقها مستوحشة حظها المباح مثلا في الفن والرياضة والرواية والمسرحية وغيرها
من الطقوس التربوية والثقافية والاجتماعية السليمة التي تؤطر مناخات الشعوب الدافئة
وإنتاجاتها التنموية الخصبة والحضارية الخالدة.
إن مجرد الرفض المطلق لبعض مظاهر الحياة بدون
بدائل وإن كان صعبا وقاسيا وفي أعلى درجات البتر والمقاطعة فانه لا يحل
الإشكال، ذلك أن النفس البشرية كما يقول الأستاذ محمد قطب -رحمة الله
عليه - ذات تركيب معقد، قتارتها ذات أوتار حساسة متنوعة فنية ورياضية،
جسدية وترفيهية..، لا يستوي عزفها الا بالتوازن اللازم بين أوتارها وإعطاء كل ذي
حق حقه من الضبط، ولا يسير وينتج قطارها إلا بقدر هذا التوازن وإشباع كل
الحاجيات الروحية والجسدية، الفكرية والنفسية للإنسان، وهذا هو دور كل
فنون الحياة ومن الصعب أن يملأه غيرها أو أن يستعيض البعض عن بعضها إلا
بقدر من التشوه والحرمان لابد سيدرك صاحبه نصيب وقدر من
الجفاء والغلظة المنهي عنهما في قوله تعالى: "فبما رحمه من الله لنت لهم
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" آل عمران/159.
وفي نفس الوقت أن تشرب النفس كلما هب ودب مما
يسمى بالفن، الغث والسمين وخردة الآخرين ورذائلهم الفاسدة التي غالبا ما تنمقها أجيالهم
المتمردة ولوبياتهم المهيمنة بأسماء ومسميات ساحرة وخادعة، فان ذلك
غالبا ما يفسد الذوق، وإن يفرغ فيه الوسع ففي اهتمامات الآخرين وقضايا خارج
الملف يستحيل استنبات فسائلها الملوثة في أرض غير أرضها وذوق غير ذوقها، كما
يستحيل إطفاء شظايا قنابلها الانشطارية المتفجرة في مختلف بقاع العالم وهي
تصيب من الضحايا ما تصيب، فلا رافعة تنموية ولا تلاحم اجتماعي وأصل كل ذلك من
احترام الخصوصية الثقافية البانية للأمة، هذه الخصوصية التي لن نوفيها
حقها من الاعتبار إلا بالإبداع على مختلف أشكاله وأطيافه ومنها:
1-
استجلاء الصورة الصحيحة للأمور، كيف ينبغي أن تكون انطلاقا من الأفكار
العقائدية والتجارب التراثية والحضارية بشكل عام.
2- غربلة
الموجود من التجارب حسب المجالات المقبول منها والمرفوض، الأصيل منها والدخيل الذي
ليس إطلاقا من ثقافتنا ويضر بنا.
3- إعطاء
البدائل في مختلف المجالات مع اعتبار الزمان والمكان وكل ما يأخذ هموم العصر
ومستجداته وتحدياته الجمة بعين الاعتبار.
4- تحفيز
المناخات الإبداعية على مستوى مشاريع الأفراد والمبادرات وكذا مخططات وبرامج المؤسسات
والهيئات والقطاعات في مختلف المجالات.
5- مواكبة
التجارب المعتبرة بالإنجاز والتعميم والتطوير والتجديد والنشر والتراكم .
6- خوض
التجارب المحكمة على خطورتها وتكلفتها وعدم الخوف والتردد من الفشل.
7- محاربة
السلبية واليأس والانتظارية.
8- عمل
الفريق المجتهد والمستمتع بالعمل.
9- وضع
المنتوج الجماعي تحت المحك، والرقي به نحو المعيارية.
10- القراءة
الدائمة المدعمة لمهارات التفكير والاستنباط والتحليل والتركيب والتخطيط
والبرمجة والبحث العلمي الاجتماعي في الإصلاح.. وفني اتخاذ القرار وحل
المشكلات وفق معايير واضحة ومؤشرات تنموية حقوقية وديمقراطية مضبوطة.
ومثل كل هذا مع الأسف لا يوجد بكثرة في حياتنا المأزومة والمرهونة
لسخاء الآخرين ومصالحهم، وجل من يتصدرون فيها للإبداع فغالبا ما قد يكون لأغراض
غير تربوية ولا ثقافية ولا تنموية بشكل واضح، وإنما غايتهم إبداع السخرة وتقديم
بعض الخدمات الفلكلورية لبعض الدوائر المانحة أو التي تتحكم في المهرجانات
والميداليات والفضائيات والاضواء، أضواء الموضة والموجة والشهرة والتشهير والمال والاغراء، أو
في أحسن الأحوال، كسر طوق الإعلام والقنوات المضروب ظلما على المبدعين، لكن
الفاعل المدني وهو بعيد عن كل هذا من منطلق عقائده المدنية المعروفة من.. ومن..
ومن.. فانه يمكنه الاسهام في تحفيز مناخات الابداع وتصحيح مساراتها وجودة
مضامينها وجعلها بانية لا هدامة، شاملة لا محصورة، تطال كل الفئات وتشمل كل
الاهتمامات التي هي كل فئات واهتمامات الأمة، سياسية واقتصادية، تربوية واجتماعية،
فنية ورياضية، بيئية وتنموية بشكل عام، غير أن تحفيز المناخ الابداعي بالضرورة
له بعض الشروط أيضا، والتي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ومنها:
1-
الحرية والمسؤولية للمبدعين.
2-
الإحساس بالمعضلات الفردية والجماعية.
3-
حب الاطلاع
والبحث المستمر في الاتجاه الجديد للحلول.
4-
الثقافة البانية والثقة المجددة والمغامرة والمبادرة والمثابرة.
5-
الفكر المرجعي النقدي الأصيل والتجريب العلمي والموضوعي.
6-
تنمية القدرات وتعلم المستجدات، إطلاق المهارات وتثمين
الكفاءات.
7-
التوكل على الله والعزم الدائم وإعطاء الأولوية للممكنات
قبل الإمكانيات.
وأخيرا، لا شيء يقطع حبال القيد وسلاسل الجمود
والتقليد، حتى قبل غياب البرامج التعليمية والمختبرات العلمية والمحترفات
الأدبية..، لا شيء أكثر من اضطراب الإيمان والاعتقاد في فائدة التجديد والإبداع
وضرورته الملحة في كل عصر ومصر؟، لا شيء يحارب الإبداع ويقتله في رحمه قبل مهده، مثل
قولهم :"ليس بالإمكان أفضل مما كان" أو قولهم " لم يترك الأولوين
للآخرين من الأمر شيئا" أو قولهم :" وما ضرنا أن يبدع الآخرون في المشرق
والمغرب والله يسوق لنا كل إنتاجاتهم من غير حول منا ولا قوة" أو حتى قولهم
:" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وكلها أقوال وغيرها
كثير يساء فهمها وتطبيقها أكثر، كما أن لها وجهها الآخر الذي يحض على الاجتهاد
والتجديد، وإلباس الناس لبوس قومهم وعصرهم؟. ولكننا لا نذهب في إثارته والحض عليه،
ربما خوفا من ملآلات التجديد التي قد تعصف برتابة النمط التقليدي الجامد والمتجاوز
للبعض أو على الأقل لن يتحكم في عوالمها التجديدية الرحبة؟.
خذ مثلا، مسألة التوقيت وما مرت عبره من أشكال الساعات عبر
العصور إلى يومنا هذا، وفي كل عصر هناك تجديد مفيد وأيسر وأرخص، إلى التجديد
المبهر لعصرنا حيث أصبح الجميع يعيش بمجرد ساعة الهاتف أو يكاد، وهي أرقى وأنقى وأدق
وأشمل من حيث الخدمات؟، مسألة الهاتف بدوره وما كان يعرفه من الطوابير في مراكز
البريد لكي يفوت المرء عبرها مكالمة بسيطة يلزمه يوم أو يومين و وسط سماع كل
العالمين، إلى أن أصبح لديه اليوم هاتفه الخاص وهو يتصل ويستقبل عبره ما يشاء ولو
في قمم الجبال؟، والرائي وما أصبح يعرفه اليوم من الشيوع المطلق عبر الهاتف الذكي ومشاركة
المواطن العالمي في كل شيء إرسالا واستقبالا، نقاشا ومتابعة، إعجابا وإعادة، مدحا
وقدحا..، بدل ما كان سائدا من الاحتكار والتوجيه المضلل.. نفس الشيء يقال في جانب
القيم والأفكار وهي الأخطر، وكل يوم تصعد علينا الأقوام بأفكار الحيرة وقيم التيه
تجد لها من رجع الصدى لدى أبنائنا وبناتنا ما تجد؟، ألم يكن أجدى لو شارك قومنا في
خلخلة أمعاء مثل هذه الاختراعات والابداعات والبدع والترهات والموجات وهي التي
لازالت تحت رحمة مصل الآخر ، يملؤها بما شاء ويفرغها مما شاء ويمنحها من شاء أو
يمنعها عمن يشاء؟.
الحبيب عكي.