في حديث رسول الله (ص): "ذهب أهل الدثور بالأجور،
يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بأموالهم، فقال: " أو ليس قد جعل
الله لكم ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة
صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"؟. رواه مسلم عن أبي ذر
الغفاري. وفي حديث أبي ذر أيضا: "يصبح على كل سلامى ابن آدم صدقة". يعني
على كل أعضاء جسم الإنسان (360) صدقة مثل ما سبق من الأعمال وزيادة. وفي حديث
"أسماء بنت يزيد" الأنصارية، وافدة النساء إلى الرسول (ص) تشكين تخصيص
الرجال بالجهاد وحب النساء أن ينالهن مثل ذلك، فقال لها (ص): " أقرئي مني
النساء السلام، وقولي لهن: " إن طاعة الزوج وحسن تبعله من ذلك، وقليل منكن
تفعله"؟.
أحاديث جليلة تصحح المفاهيم وتوضح الأمور وتردها إلى
نصابها وتفعلها في مساراتها الفردية والجماعية، معنى الصدقة.. معنى الجهاد.. طيف
أعمال الخير في الإسلام.. كيف يقوم بها كل من الفقراء والأغنياء رغم الفوارق؟.. وكيف
يقوم كل من الرجال والنساء بلوازم الإيمان ويأتون من الطاعات أعمالا تعبدية
أبوابها تسعهم جميعا رغم الخصوصيات؟.. كيف بحسن القيام بالمتاح من الأعمال الخيرة يعود
خيره على الجميع ويحقق المقصود الديني والدنيوي.. فالصدقة صدقات.. والجهاد
جهادات.. ولكل شروطه وفئاته الفاعلة والمفعول لأجلها.. من يتوجب عليها ومن يستحب
لها وحتى من يمنع عليها لعذر ورخصة ولا ينقصه من أجره شيئا، ليبقى سؤال العمل
دائما من أكون (إمكانيات) وأي صلاحيات أمتلك (ممكنات)، ويبقى العمل دائما واجب
لكنه معلق بين الإمكانيات والممكنات؟.
لعمري، هذه حكاية التنمية المعطلة في بلداننا العربية،
حكاية تاهت بقومها بين الإمكانيات والممكنات، إمكانيات ننتظرها وهي في الغالب
مفقودة، أو محدودة لا يمكن توفيرها بالشكل المطلوب، وحتى ما يمكن توفيره منها نسيء
تدبيره، ونستبيح فيه نهب الأوصياء والمتنفذين والأغنياء بأسماء ومسميات؟، تشجيع
الاستثمار.. التدبير المفوض.. المضاربة في بورصة القيم.. المشاريع المشتركة مع الشركات
العابرة للقارات.. والنتيجة واحدة نهب في نهب لا تنمية نحقق ولا إمكانيات
وميزانيات نبقي؟. وخيار آخر، وهو خيار الممكنات مع توسيع الصلاحيات والتي -مع الأسف- يزدوج تعقيدها بين مواطنين
يحتقرونها لا يعلمون بها ولا يقدمون على استثمارها وتفعيلها وهي لهم متاحة، وفي
نفس الوقت مسؤولون يقومون بخوصصتها والتضييق عليها مبادرة فردية كانت أو منظمة
جماعية؟.
صحيح أن التنمية رؤية.. مخططات.. برامج ومؤشرات.. إرادات
وقدرات.. طاقات وعقليات.. مسؤوليات وحريات.. مشاريع وشركات.. وسائل وميزانيات..
قيم عمل ومؤسسات..، ولكن، أسها وأساسها وأكبر أبواب.. مداخلها وحواملها هي
الاهتمام بالممكنات والاقدام عليها أكثر حتى من الإمكانيات والمسؤوليات على
أهميتها. وبالتالي، من الإيجابية بمكان، واتجاه أي وضع اجتماعي وسياسي أو غيره مهما
كان مقلقا ومحرجا.. أن نتساءل عن دور الفاعل التنموي فردا كان أو مؤسسة، ما دوري
أنا وأية ممكنات لي متاحة؟. وكيف يمكنني أن أقوم ولو بجزء يسير منها جهد
المستطاع؟. وإن إهمال هذه الثقافة التغييرية الذاتية الإيجابية في انتظار
الإمكانيات وفي انتظار الصالحين من المسؤولين والغيورين من المنتخبين.. وفي
انتظار.. وانتظار.. وانتظار من قد يستجيب أو لا يستجيب، أمر ولا شك يفوت الكثير
والكثير على الجميع، ويبقي الأوضاع المتردية على حالها إن لم يزد في تفشي وامتداد
رداءتها ورقعتها؟.
بينما عند سيادة ثقافة الممكنات المتاحة والمسؤولية
الذاتية وهي باب واسع من أبواب العمل المدني بمفهومه الواسع والتنموي الشامل..، هل
كان الناس سيحتاجون إلى ثقافة التدبير المفوض مثلا؟.. والجباية المفوضة التي تنهب
أموالهم وتعطل أبنائهم ولا تجود بالضرورة خدماتهم ونظافة أحيائهم؟. عند ثقافة
الممكنات وتوسيع الصلاحيات وقبول المبادرات وتنظيمها من طرف الجهات المختصة وفق
معايير محددة، هل كان من الممكن أن نوسخ شوارعنا وأحيائنا بأنفسنا وبهذا الشكل
العشوائي والفوضوي لنقيم بعدها كل الحروب الطاحنة والمعارك القذرة كي نختار أو
يفرض علينا من سيتكلف بنظافتها ولا يفي بذلك على أحسن وجه ممكن رغم ما يوضع رهن
إشارته من طاقات بشرية وإمكانيات مادية؟. وقس على ذلك جميع الأمور في جميع
المجالات، إحياء ثقافة الممكنات والعمل بها يجلب الكثير من المصالح للبلاد ويدفع
الكثير من المفاسد عن العباد، وهو خير من انتظار كائن من كان استجاب لطلبات القوم
أو عرقلها وهو الحاصل وإن بقدر ما؟.
ورب قائل، ما دامت التنمية رؤية، فهل من صواب رؤيتها، أن
يقوم المجتمع المدني المتطوع بأعمال غيره من المنتخبين والمستشارين وتقوم الجمعيات
الخيرية بأعمال غيرها من المجالس الترابية والمديريات الجهوية والقطاعات
الحكومية؟، وفوق ذلك بأية وسائل وإمكانيات حتى لو كان ذلك من اختصاصها أو مسموح
لها التدخل فيه؟. قال أحدهم عن فلسفة البؤرة المتسخة التي سرعان ما أصبحت مزبلة
المدينة الضخمة، أنه كان ذات مرة قد رمى أحدهم بورقة مهملة في ذلك المكان النقي،
وإذا بآخر قد رآه ورمى بدوره قشور فاكهة، وإذا بآخر وآخر.. وأخرى وأخرى وآخرون
وأخريات، حتى تراكمت الأزبال وأصبحت البقعة بالعرف مطرحا، و"فكها يا من
وحلتها"؟. ونفس الشيء بالشيء والعكس بالعكس، إذا بادر حي بفعل خير وحملة تحسيسية أو مبادرة إحسانية وتأثر به حي
غيره فحدى حدوه.. فحي غيره وحي غيره.. وإذا بتراكم مهم وممتد من الحملات التحسيسية
والمبادرات المدنية والمشاريع التربوية والمسابقات البيئية والفنية والرياضية، حفر
بئر.. وبناء جسر.. وتبليط قصر.. وأوقاف لمدارس وجمعيات وجوامع وجامعات.. فلا تحقرن
من المعروف شيئا وفوق طاقتك لا تلام؟.
معلومة قيمة سمعتها من أحد الأساتذة الأجلاء وهي تؤكد
لنا هذا المنحى التوجيهي حول أهمية العمل بالممكنات في التنمية، ومفاد القولة:
" هل كانت اليابان لتنهض بهذا الشموخ وتصعد إلى قمة الكبار وهي من أفقر دول
العالم من حيث الموارد والإمكانيات، نظرا لطبيعتها الجغرافية الصخرية ومساحتها
الصغيرة وتضاريسها الزلزالية"؟، ولكنها لم تبقى مكتوفة الأيدي، بل استثمرت في
إنسانها الياباني بقيمه وتعليمه وفتحت أمامه باب إحياء الرغبات والعمل بالممكنات
وتثمين القدرات، فكانت الثورة اليابانية الهائلة والهادئة والشاملة، والتي لم تكن
فيها الموارد والإمكانيات إلا شيئا يسيرا وفوق ذلك مستورد من الخارج، فالممكنات..
الممكنات.. قبل الإمكانيات.. ومعها وبعدها.. فلا تنمية مع إمكانيات مفقودة ومقيدة
وممكنات مجهولة ومهملة، وتحية لأصحاب برنامج "ممكنات" على إحدى الإذاعات
الخاصة، تحية لأصحاب المسارعة في الخيرات وشتى أنواع الطاعات الذين يجعلون من كل
تسبيحة صدقة.. من كل تحميدة صدقة.. من كل مساعدة للغير صدقة.. من كل صلة للرحم
صدقة.. وفي بضع أحدهم صدقة.. بإصلاح النية وإخلاص العمل وحسن التوكل تصبح لهم العادة
عبادة وصدقة.. والممكن إمكانا وتنمية.. ما أغناهم ما أغناهم وهم يحصلون لأنفسهم
الأجر والثواب عبادة وعادة، ويشيعون بينهم وفي محيطهم الثراء والنماء إمكانيات
وممكنات ؟.
الحبيب عكي