رغم قوتها وضغطها
وانتشارها بكثرة بين صفوف الشباب الراشدين والرجال والنساء من البالغين، ورغم اعتمالها
في حياتهم بشكل دائم وصور شتى، تجعل منها العنصر الأساسي وراء العديد من مظاهر
التوتر النفسي والقلق العلائقي والحرمان العاطفي والاضطراب الواضح والغامض في سلوك
الشخص وتصرفاته وردود أفعاله، وكذلك العنصر الأساسي وراء العديد من مظاهر الانحراف
الجنسي والتفكك الأسري والخيانة الزوجية.. والتغرير بالقاصرين والمغفلين إلى جحيم العصابات
وسوق الدعارة ومحرقتها، وغير ذلك مما يهدم قيم المجتمع وينتهي بضحاياه في ردهات
المحاكم وأقبية السجون و أتون الملاهي ومعاناة المستشفيات؟.
رغم كل هذه الأخطار
النفسية والجنسية.. الصحية والاجتماعية.. فلا زال المجتمع بكل عاداته وقوانينه
يتعامل مع الموضوع في الغالب بنوع من التغاضي والتراضي.. وحماية بؤر الفساد وكنس
مخلفاتها في البؤس ورهطها من الجريمة، إن لم يكن تشجيع الظاهرة الخبيثة والاستثمار
في بؤسها ومتاهات حرمانها.. بما يشجعه من إعلام الفاحشة والاباحية وينشؤه من أندية
المنكر وملاهيه.. وغير ذلك من أنشطة التجارة الجنسية وهي أكثر دخلا من تجارة دمار
الأسلحة وعصابات المخدرات؟، هذا في الوقت الذي نجد فيه السيرة النبوية العطرة.. لا
تمتلىء في هذا الباب بغير ما يشجع الجنس الحلال ويحارب الجنس الحرام، وعلى رأس ذلك
العديد من مواقف الرسول (ص) وخوضه في معالجة العديد من هذه المشاكل العاطفية وبطرق
مختلفة وحنكة بليغة، نذكر منها:
1- من الناحية العقدية التصورية والبوصلة التوجيهية: فهو (ص) لم يحرم
العلاقات العاطفية ولم يستهجنها.. بل هي مما حبب إليه من دنيا الناس فقال: "
حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" رواه النسائي.
وقد شجعها (ص) في الحلال فقال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة
فليتزوج.. فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وشجع ممارستها فقال: " وفي
بُضْع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجر؟
قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له
أجرٌ" حديث صحيح. وتبعا لذلك، فقد
قوم سلوك قوم تفرغوا للعبادة واستنكفوا عن المعاشرة فقال في حديث هلك المتنطعون:
"...أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني
أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"
متفق عليه.
2- من الناحية الشخصية والقدوة العملية في الحياة: فقد كان (ص) نعم
الزوج القدوة.. وعاش مع زوجاته نعم الحياة الزوجية.. بكل الرحمة والمودة
والسكينة.. وجعل الخيرية في ذلك فقال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم
لأهلي"، وقد روت عنه أمنا عائشة رضي الله عنها أنه كان يكون في خدمة أهله..
ولا يشق عليهم في شيء.. ويصبر عليهن عند الغيرة والخطأ.. فما عير زوجة ولا ضرب
زوجة قط.. بل كان (ص) يلاعبها.. يسابقها.. يخرج معها.. يتكيء في حجرها.. يحدثها
حديث المشاعر.. يعلن حبها.. يهدي لأحبتها.. يتفقدها وحاجتها.. يحترم لعبها.. يدبر
غيرتها.. يشاورها.. يعمل برأيها.. ويضع اللقمة في فيها.. حتى أنه يشرب من مشربها
في الإناء الواحد محبة وترضية وارتواء.
3- من ناحية
تعاطيه (ص) مع المشاكل العاطفية للأخرين: فقد
حث (ص) على الزواج في حديث: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه
تكن فتنة في الأرض وفساد كبير "رواه الترمذي، وأمر بحسن الاختيار في حديث:
"تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت
يداك" رواه أبو داوود والنسائي، والحرص على الاستقرار والاستمرار في الحياة
الزوجية والتماسك الأسري في حديث: " استوصوا بالنساء خيرا "،
وحديث:" فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك"، وحديث: " لا يَفرَكْ مؤمن
مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر".
وحرص (ص) على إيفاء حقوقه كل من الزوجين في تأكيده حكمة سلمان لأخيه أبي
الدرداء على إثر تفرغه للعبادة وإهماله زوجته حتى أنها تبقى بلباس مطبخها، وإنصافا
لها أعاد عليه قول سلمان له: "إنَّ لربِّكَ عليك حقًّا ولأهلِك عليك حقًّا
ولجسدِك عليك حقًّا فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه" رواه ابن حبان. وكذلك، حارب
الفساد وشيوع الرذيلة في صفوف المؤمنين من خلال حواره (ص) مع الشاب الذي جاءه يريد
منه أن يأذن له بالزنى فقال له: " أترضاه لأمك؟.. أترضاه لأختك؟.. قال : لا
والله جعلني الله فداءك يا رسول الله، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.. ولا
أخواتهم.." فدعا له: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه.. فاقتنع الشاب وارتضى
وخرج من عنده والزنى أبغض شيء عنده" رواه أحمد. وكذلك فعل عمر رضي الله عنه من بعده عندما سن
ألا يغيب الزوج المجاهد عن زوجته أكثر من ثلاثة أشهر أو أربعة، حتى لا يفتن الناس
في دينهم وعفتهم، وقد فعل هذا بعد استشارة ابنته حفصة في حادث التي غاب عنها زوجها
وداهمت ليلها لواعجها.
والآن سنختم بحادثين من أحداث المشاكل
العاطفية كان الفضل في حلهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- الحادثة الأولى: حادث بريرة ومغيث: عن ابن عباس قال: كان
زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها في سكك المدينة يبكي
ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «يا عباس ألا تعجب
من حب مغيث بريرة؟ ومن بغض بريرة مغيثا؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: «لو
راجعتِه» فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما أشفع» قالت: لا حاجة لي فيه"
رواه البخاري.
في هذا
الحديث أن مغيثا كان عبدا فتزوج من بريرة وهي أمة مثله، ثم منَّ الله عليها
فأعتقت، فاختارت فراقه، لكنه كان قد شغفته حبا، فظل يسترضيها ويتودد إليها ألا
تتركه، وهي ترفض، فما عاد يليق بها، فضلا عن أنها لا تبادله حبه. فكان يسير وراءها
في سكك المدينة يسترضيها وهي ترده، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه
المشكلة الشخصية التي يتعرض لها مغيث، رقَّ له، وتعاطف معه، فتوسط له عند بريرة
فرفضت لمَّا علمت أن الأمر وساطة اجتماعية من الرسول وليس وحيا أو أمرا نبويًّا.
وفي القصة من إنسانياته صلى الله عليه وسلم، اهتمامه بمشكلة شخصية جدا، تخص شخصا
واحدا، وهي مشكلة عاطفية، فكل مشكلة مغيث أنه يحب بريرة، ويريد أن يبقى معها،
ويبكي من شدة رفضها له، فلا ينهره صلى الله عليه وسلم ولا يأمره بالتصلب وكبح
مشاعره، فإنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن المشاعر لا سلطان للنفس عليها.
2- الحالة الثانية: حادث الزوج الحاضر الغائب: عن عائشة رضي الله
عنهما قالت: ” دخلت علىَّ "خويلة" بنت حكيم، وكانت عند عثمان بن مظعون،
فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذادة هيئتها، فقال لى: يا عائشة ما أبذ هيئة "خويلة"،
فقلت يا رسول الله، امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها،
فتركت نفسها، وأضاعتها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن
مظعون، فجاءه فقال له: يا عثمان أرغبت عن سنتي؟، فقال: لا والله يا رسول الله،
ولكن سنتك أطلب. قال: فإنى أنام وأصلى، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا
عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر،
وصل ونم". فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس، فقلن لها: مه؟ قالت: "أصابنا
ما أصاب الناس". رواه أحمد وغيره. يقول الشيخ خالد محمد خالد: ” بالأمس لم
يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمر صبرا حين رأى أمامه زوجة يؤرقها هجر
زوجها، وتضنيها مرارة الحرمان، فأسرع لنجدتها، وذكَّر زوجها بما لها عليه من حق،
فما أن جنَّ عليه الليل ثم طلع عليها صباح يوم بهيج حتى كانت تزهو فرحة مطمئنة
تقول لصاحباتها: "أصابنا ما أصاب الناس"؟.
"أصابنا
ما أصاب الناس"، بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أصابنا ما أصاب
الناس" من صفاء جو.. ونيل حق.. وعودة صحبة.. واهتمام زوج.. وطرد إهمال وتجافي..
وعناد وشحناء.. وهادم بيوت ومقرف علاقات.. هاضم حقوق ومفرق زيجات.. وكم من الزوجات
والأزواج.. وكم من الأقارب والقريبات.. كم من العانسين والعانسات.. كم من المطلقين
والمطلقات.. وكم من المرملين والمرملات.. وكم من اليتامى واليتيمات.. وكم من
الطلبة والطالبات.. وكم من المسافرين والمسافرات.. وكم.. وكم..، كلهم ينتظرون يدا
حانية.. وقدرا عطوفا.. وتقاليد اجتماعية ميسرة.. وسياسة عمومية راشدة.. تساعدهم في
حل مشاكلهم العاطفية.. وتهدئة مشاعرهم المتأججة.. في هذه الأوقات العصيبة والظروف
القاسية.. وألف عرقل وعرقل في وجه الزواج الشرعي والتحصين والاستقرار الأسري..
ودوام العشرة بعيدا عن التفكك والطلاق.. والطلاق العاطفي.. حتى يفرح بها الناس
ويقولوا على الدوام كما قالت "خويلة": "أصابنا ما أصاب الناس..
أصابنا ما أصاب الناس"؟.
الحبيب عكي