منذ وعينا وعلى الدوام.. يبدو أن السياسة هي
الفاعل الوحيد الأكثر تسلطا على شؤون البلاد ورقاب العباد.. والأكثر خسة.. خيبة وإفلاسا
على جميع الأصعدة.. من ناحية الكرامة.. الحرية والتنمية.. العدالة الاجتماعية والمجالية..
إن على الصعيد الدولي أو القومي أو حتى المحلي؟، ولا أدري من أين لهذه العجوز
الشمطاء بكل هذا السحر الزائف والجذب الزاحف، بأسماء ومسميات ظاهرها الديمقراطية والتنمية وتحقيق
التقدم والازدهار والرخاء..، وباطنها من قبلها العذاب والمآسي والسيطرة والتفرقة والتخلف
والصراع الطاحن، إنها حقا لعبة.. لعبة خسيسة بين المسؤولين والشعوب..، "يوريوها
من الربح قنطار ويديوا لها راس مالها".. هم الراكبون على ظهورها، يعلقون
أمامها جزرة الوهم التنموي والديمقراطي..، فلاهم يصلون إليها كطعم، ولا هم رغم
عذابهم يتوقفون عن السير المضني في طلبها.. تكررت بين القوم مأساة حمار الطاحونة
والأطرش في الزفة؟.
هل كانت سياسة تلك التي عبدت طريق الاستعمار
إلى بلداننا الإسلامية لعقود وعقود من مسخ الهوية وضرب المرجعية وحرب الحدود ونهب
الثروات؟، هل كانت سياسة تلك التي خيبت آمال الشعوب المجاهدة وهي لا تلو جهدا
للحفاظ على مصالح الاستعمار الذي طردته هذه الشعوب الإسلامية من الباب وأعادته المصالح
والنحب المهجنة من النافذة؟، هل كانت سياسة تلك المستلبة الخائنة المهزومة التي
كانت ولا زالت لا ترى نهضة شعوبها المحررة إلا في اتباع الغرب المستعمر شبرا بشبر
حتى لو دخل جحر ضب لأدخلونا إياه؟. أية سياسة دولية تلك التي اغتصبت منا ارض
فلسطين السليبة لتمنحها على طبق من ذهب للكيان الصهيوني الغاصب وهي تستقدمه إليها
من الفيافي؟، بل وتعمل على تأمين عيشه فيها ولأزيد من قرن من الحروب المأساوية وكوارثها؟،
هل غزو العراق وأفغانستان وسوريا واليمن والسودان وليبيا..، كان بدون ضحايا، فقطع
ظهر التنمية وأبقى لنا من السلام سلاما؟.
أية سياسة وطنية تلك التي تتولد مؤسساتها
صورية عاجزة عن أداء مهامها ومبرر وجودها، وتأتي هياكلها المخزنية والحكومية
والجماعية بطرق هجينة ضعيفة في الاعتبار الديمقراطي الكوني، لا جهوية حقيقية فيها
ولا مركزية، ولكن تحريكها وكأنه فوق القومية واشتغالها سبق الكونية؟. أية سياسة
وطنية تلك التي تتولد فيها بعض الأحزاب والنقابات بملاعق من ذهب على غير امتدادها
الشعبي ونضالها الوطني وإنجازها الميداني، وتوضع برامجها الانتخابية ومحطاتها
النضالية على غير هامشها القطاعي ومردودها الخدماتي، وكأن ليس بينها وبين المواطن
إلا مواسم صناديق البرقوق؟، تنادي بالإصلاح ومحاربة الفساد والحكامة وربط
المسؤولية بالمحاسبة..، وهي مجرد استمرار لكل من كان قبلها وتراكمه المرفوض في اضطراب القيم وتجميد الأجور
ورفع المديونية والتهاب الأسعار وضرب القدرة الشرائية وتحرير المحروقات.. وتكريس
كل الملفات السوداء في التعاقد والتقاعد والهشاشة الصحية والتعليمية والاحتقان
الاجتماعي المطرد. إن السياسة لا تتغير فقط بتغيير الأشخاص بل بتغيير الرؤى والبرامج
وقبل ذلك المؤسسات والصلاحيات؟.
وقبل أن يتحقق للشعب شيء من انتظاراته
المشروعة على الصعيد الوطني، هل تحقق له منها شيء قبل ذلك على الصعيد الجهوي
والمحلي وطالما وعد بأنه سيكون سيد مجاله الترابي ومبادرته التنموية إن سياسيا أو
مدنيا أو حتى مواطنا عاديا؟، كثيرون يرون أنه لا شيء ذي جدوى قد تحقق غير المشاركة في انتخابات كل طبخاتها ليست في
يده لا قبلها ولا بعدها.. أما حاجته الماسة من الكرامة والتنمية فدونها مشاريع وميزانيات،
وأما هواؤه من الحرية والعدالة الاجتماعية فدونها أساليب سفسطائية وعقليات، وهكذا جل
الأمور تسير دون رأي المواطن ولا إشراكه ولا الاستماع إليه ولا حتى لممثليه وبرلمانيه
ولا.. ولا.؟، كم يشتكي المسكين المغلوب
على أمره من رداءة الخدمات في العديد من المؤسسات فمن يستمع إليه؟، كم يشتكي المطحون
بالبطالة من ضعف قدرته الشرائية والتهاب الأسعار، من حاول فك طلاسيمه ؟ أفضل ما
يقع وأسوؤه مقاربة أمنية سيئة السمعة ومنع الوقفات وقمع الاحتجاجات وصرخاتها ودماؤها
السيالة لا زالت تلطخ كل الشوارع والشاشات؟.
كيف لا يصاب بالهم والغم، من يستمع إلى شباب
اليوم وهو يشكو بالدمع الحزين والشيب قد استباح نضارته قبل الأوان، يشكو المسكين المطحون كيف حرمته السياسة من
اجتياز مباراة التوظيف لتسقيف سنها؟، وحرمته من السفر وقضاء بعض أغراضه الإدارية
لعدم توفره على جواز التلقيح المجدد وهو "اختجباري"؟، وحرمته حتى من جر
عربة مشروبات ومأكولات خفيفة يجاذبها كل
يوم في طواف ماراطوني السيد القائيد والباشا والمخازنية والباندية؟، كيف تحرم
الشابات القرويات من المنحة الجامعية على هزالتها ليستقرن المسكينات في قريتهن بعد
عقود من الدراسة البيزنطية، ويبدأن مشوارهن العبثي في انتظار الذي قد يأتي ولا
يأتي، ولكنه يقحم بهن في تعليم "الروندة" و"سانجير" باسم
مشاريع الشباب، أو تربية الأرانب والدجاج باسم التنمية البشرية؟، ورغمها فلا بديل عن السياسة إلا السياسة،
والسياسة ما ينفع الناس ولو لم ينزل به وحي ولا قال به رسول، ولكن، كيف يمكن أن
تكون كذلك؟، لابد لها من أن تكون:
1- سياسة وطنية مبدعة لا سياسة سخرة تابعة.
2- سياسة مؤسسات و صلاحيات.. حكامة ومحاسبة.
3- سياسة كرامة و حرية.. تنمية وعدالة اجتماعية ومجالية.
4- سياسة ديمقراطية تشاركية تضامنية تستوعب الجميع من اجل الجميع.
5- سياسة واقعية وأخلاقية تستجيب لحاجيات المواطنين بمؤشرات واضحة.
6- سياسة اجتماعية متكاملة ومندمجة مع غيرها من سياسات الاقتصاد والتربية
والثقافة..
7- سياسة رفع الهيمنة والتضارب بين الفاعل الرسمي وغيره من الفاعلين
التمثيليين والمدنيين..
8- سياسة القوانين والمراسيم التنظيمية التي تكون فوق الجميع ويحتكم إليها
الجميع لا إلى غيرها.
9- سياسة جودة الخدمات وتيسير ولوج الجميع إليها على قدم المساواة من حيث
القرب والاستطاعة.
10- سياسة القضاء المستقل والاعلام الوطني الحر والمبادر والمتضامن مع القضايا
الكونية العـــادلة.
ترى ما هو رصيد سياستنا المبجلة وإنجازاتها
في هذه المجالات، وقد يقبلها القابلون.. ويرفضها الرافضون.. ويتحفظ بشأنها
المتحفظون، لكنها تظل بالنسبة للأغلبية المسحوقة الصامتة والصارخة على السواء..
سياسة متعبة.. صادمة.. غير ضامنة للعمل ومخيبة للآمال..، فعبر الحكومات المتعاقبة
ما هي الملفات التي تمت تسويتها لفائدة المواطن أو على الأقل تقدت في اتجاه ذلك
بشكل مقبول.. التعاقد؟.. التقاعد؟.. حقوق الإنسان؟.. المرأة والطفولة؟.. الشباب
والأسرة؟.. التغطية الصحية؟.. دعم القدرة الشرائية؟.. تخفيض البطالة والبطالة
المقنعة؟.. العدالة الضريبية؟.. تخليق الإدارة وتنمية القيم المواطنة والسلوك المدني؟..
تشاورية المجالس الترابية.. الشفافية الجمعوية من حيث منح الوصولات والفضاءات والمنح
والشراكات..؟، وكم يدعم هذا التعب المحبط والصدمة الموجعة كل تلك المؤشرات الذيلية
التي ما فتئت تحتلها سياستنا في الترتيبات الدولية.. التنمية البشرية(121/189).. الحرية
الإنسانية(134/165).. الأمن الصحي(108/195).. جودة التعليم (101/140).. مؤشر
الفساد(87/180).. مؤشر الديمقراطية(95/140)../ ترتيبات 2021 إن صح ضجيج أرقامها؟.
مراتب
فوق المائة وبالعشرات أحيانا ترتبنا لا في المراتب الديمقراطية والتنموية الصافية..
ولا في المراتب المعيبة.. ولا حتى في المراتب الديكتاتورية.. ولكنها في المراتب
الهجينة.. لا من هؤلاء ولا من هؤلاء.. فإلى متى.. وكيف.. وبماذا.. ستكون حياتنا
السياسية والاجتماعية أفضل؟، تتبع السياسات هكذا و التنبيه إلى عيوبها وقصورها وانتقاد
انحرافاتها.. و.. و..، ضروري، ولكنه لن يجدي في أمر العلاج والتقويم والنهوض بالبلاد
والعباد شيئا، ما لم يبادر كل منا هو ذاته من مكانه وحسب إمكانه إلى استيعاب
الأعطاب والاختلالات الموجودة وأسبابها وإلى المساهمة في التغييرات والإصلاحات
المنشود ومداخلها وحواملها، لا في أفق الجهد والخلاص الفردي وهو السائد، بل في أفق
الجهد والخلاص الجماعي، وبكل تلك المقومات السابقة للسياسة والعمل الوطني، وفي
مقدمتها أدوات التعلم وبناء معرفة التغيير التنظيمي والمبادرة المؤسساتية وتراكم
جهود الإصلاح والتعاون الذاتي، فالأسري، فالمجتمعي الديمقراطي التنموي التشاركي
القيمي والتضامني ككل.. والله الموفق؟.
الحبيب عكي