والله،إن قلوبنا وألسنتنا وجميع حواسنا ومداركنا،لا تسعفنا بأي شكل من
الأشكال،أن نصدق كل هذه الرداءة والهشاشة والفوضى التي نعيشها اليوم في هذا البلد
الطيب الحبيب،وفي مختلف المجالات ومع العديد من الفئات والهيئات،مما لا يدفع بنا
إلا إلى مزيد من اليأس والقنوط والاحتقان،والاعتقاد الراسخ في أن البلد قد سقط بلا
شك وبالتأكيد في متاهات التخلف وتكتم أنفاسه كل حبائل الأزمات المزمنة وخيوط المعضلات
المتفاقمة؟، نرفض بشدة هذا الشعور السلبي المحبط القاتل،خاصة إذا نظرنا إلى الوجه
الآخر من العملة المغربية الثمينة والناذرة،والنصف الآخر المملوء من الكأس،وغيرها
من الثوابت التاريخية،والانجازات التنموية المتتالية،والتي تشير كلها إلى أن
المغاربة ليسوا كما هم اليوم ولن يكونوا يوما كذلك،وأن بمقدورهم وإرادتهم وتوافقهم
وممكناتهم وتضامنهم رفع كل التحديات وكسب كل الرهانات؟؟.
أعتقد كلنا ينادي بالنموذج
التنموي الجديد،الذي يمكن أن نتجاوز فيه إخفاقات النموذج الحالي،والذي يمكن أن
تتحقق فيه نوع من العدالة الاجتماعية والتضامن والإنصاف،ولكن،عندما نجد كل هذه
المعارك الهامشية والبزنطية،والتي كل يوم تطحن المواطن البسيط وتحط من كرامته
وتشقي عليه حياته المزرية وتهضم عليه حقوقه المشروعة،إلى درجة أنها تبقيه متعثرا متوترا
على الدوام،ولا تبقي له أية فرصة للنهوض وللحفاظ على آدميته وإنسانيته كبقية
المخلوقات،فبالأحرى فرصة نيل حظه من الثروة والتنمية والترقي الاجتماعي بشكل عادي
وقانون واضح،لا يمكن التلاعب به ولا يمكن جعله في صالح ومصالح فئة دون غيرها ممن
لها نفس الحاجات والمواصفات والمؤهلات والتضحيات؟،عندما نرى هذا فأبشر بنظام قديم
جديد لا يؤسس لغير التيه والاضطراب والضرب بعمق في كل أحلام ونضالات تحقيق العدالة
الاجتماعية التي هي أس وأساس التنمية والاستقرار والرقي والأمن لكل شعوب العالم؟؟.
وأعتقد كذلك كلنا يؤمن بأن
كل هذا التردي والهشاشة التي تجتاح حياتنا إنما تعود في جانب أساسي منها إلى
التردي الذي ما فتىء يجتاح المدرسة المغربية،وبالتالي ضرورة النهوض بمنظومة التربية
والتعليم وإصلاحها كخيار تنموي استراتيجي وبشكل لا يقبل التمويه المعهود ولا التلاعب
بمستقبل الأجيال والوطن؟،ولكن، عندما نرى المعلم الأستاذ قد أخرج من القاعات
والمؤسسات،ويصرخ حانقا في كل الطرقات وأمام كل الهيئات،عن حقه المشروع في التكوين
المتين والتوظيف الرسمي والاستقرار المهني والاجتماعي،ولا يجد من المسؤولين غير الرفض
والاضطهاد والتجاهل والإصرار على غلق باب الحوار،في محاولة يائسة لإذلال المتضررين
المنتفضين وفرض الألم والمعاناة عليهم والاشتغال في مرارة الأمر الواقع؟؟.لا لشيء
إلا بهدف تقليص كتلة الأجور والتقشف على الناس،استجابة لضغوط وشروط الهيئات
الدولية المانحة،طالما غلفناه بهاجس الإصلاح والحرص على المصلحة،ولا ندري متى كان
هذا الإصلاح التعليمي ولا هذه المصلحة الوطنية في إهانة الموظف وغمطه حقه وهو الذي
أعطى في المدن والقرى والأرياف والجبال ولم يبقي عليه من الأمر شيئا؟؟.
ومما لا شك فيه أن الجميع
يفتخر بمكتسبات المغرب في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والمفهوم الجديد للسلطة
الذي يعتمد على سياسة القرب والمقاربة التشاركية،وأن الدوائر العليا طالما وقفت
بالتصدي لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية حول البلد واتهامها بالانحياز
والمغالطات؟،ولكن،عندما تصبح مقاربة المقاربات في حل الأزمة التعليمية والصحية
والتشغيلية والسكنية وغيرها من الإشكالات الإدارية والاجتماعية،هي المقاربة
الأمنية التي لا يستنكف فيها رحال الأمن المحترمين على قمع إخوانهم وأبنائهم
وآبائهم وأمهاتهم في المظاهرات وتفريق الاحتجاجات..بالركل والرفس والسحل..بكسر
العظام وإسالة الدماء وإجهاض الأجنة..بالمطاردات الماراطونية والمواجهات الهوجاء
والاعتقالات المجانية..في كل الحواضر والبوادي..في كل الأزقة والشوارع..في كل
الجهات والعمالات والولايات..أمام مقرات كل الهيئات والمؤسسات وعلى رأسها مقرات
البرلمان في العاصمة،والذي أصبحت الأحداث اليومية والمؤلمة لوقفاته الاحتجاجية
ومظاهراته الفئوية المادة الدسمة والمخجلة لكل المواقع و وسائل الإعلام ونشراتها الإخبارية
في كل الفضائيات؟،أليست هذه المقاربة الخطأ في المعركة الخطأ بالأسلوب واللوجستيك
الخطأ؟؟.
نحن نستحق حياة أفضل،وبالإمكان وبالإمكان جدا،ليس بما سعينا ولازلنا نسعى
إليه من تنظيم كأس العالم،ولكن فقط وفقط:
1-إذا لم يتولى أمرنا مسؤولون بعقلية تدبير القطيع،آخر ما يعيرونه الاهتمام
هو رأي أبناء الشعب؟،فإذا صاح منهم أحد أو صرخ أو حتى انفجر،فإنما ذلك عندهم بغرض
الزيغ والعصيان ولابد له من الضبط والتأديب و لو بالتجاهل والنسيان،ولو بتهريب
النقاش وتفريغ الملف من حقائقه وكأنه قضية عنف وأمن خطير أو تطرف أو مخدرات،على
اعتبار أن لا وجود أصلا للمشاكل في سياستهم "العام زين"،وأن كل طائر مذبوح
مهما تلوى من الألم فإنما عند هؤلاء من الفرح والطرب يرقص؟،وقبلهم ومعهم أيضا مسؤولون
خبزيون متنكرون ممن يدبجون قوانين السيطرة والتحكم هذه بكل برودة أعصاب،بل وبفخر
واعتزاز وإن كأدوات تنفيذ،وكأنهم لم يسعوا يوما إلى التحرر من القيد الإداري وإلى الترقي
الاجتماعي ومن أجلهما انتهزوا كل الفرص وركبوا كل الصيحات،فما بالهم اليوم يصرحون
بما لا يصدقونه حتى هم أنفسهم،التعاقد فرض..لم يفرض..والنظام الأساسي هو نفس نظام الأكاديميات..هناك حرية وتكريم وليس تهديد وإهانة؟،وكأن
كل سعيهم في مصالحة المواطن مع الإدارة هو إحكام الخناق عليه،والقذف بكل كوارثها
في وجهه،وعدم السماح له حتى بالشكوى فبالأحرى التظاهر والإنصاف،ما بال شعارهم فرعونيا:"ما
أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"غافر/ 29؟؟.
2- إذا لم تكن رؤيتنا للإصلاح كرؤيتنا للفساد،أولم تكن لنا الجرأة اللازمة
والكافية لليقين بأن إصلاح التعليم لا يمكن أن نحقق فيه أي نجاح وتراكم بالدوس على
كرامة أهم أركانه وأعمدته ألا وهي العنصر البشري،ألا وهو رجل القسم والممارسة
اليومية في الميدان،النظام الأساسي صلاح إذا أصلح،والتعاقد فساد إذا لم
يصلح،وكفانا من المغالطات،التعاقد يناسب الدول التي يتوفر فيها الشغل على كفى من
يشيل،يمكن أن يطرد فيها المرء من شغل ويجد بدله عشرة أفضل وأرقى،وليس يناسب المغرب
الذي يشيخ فيه المتخرجون،ويجتازون فيه عشرات المباريات والمقابلات وبالمئات
والآلاف،ولا يجدون أية فرصة ولو ب"الريق الناشف"؟،وإذا ما وجدوها ففي
الهجرة القسرية والمغامرة في الأعالي أوبشروط إذعان وإذلال مجحفة لا تغني ولا تسمن
من جوع فبالأحرى أن تكفيهم المتطلبات والحاجيات والأسعار الملتهبة؟،التعاقد في
المغرب تعقيد ومتاهات قهر واحتقار وعنف ومغالطات وإضرابات واضطرابات،فهل نريد
التعقيد أم نريد الإصلاح،لنا ذاكرة،لقد أدمجنا الأساتذة العرضيين في وقت سابق فاستقرت
أحولهم،وتعاقدنا مع حراس الأمن في المؤسسات"Sécurités" ولا زالوا غارقين
بالقروض الاستهلاكية المسترسلة،ومنهم من لإتمام شهره يضطر لإراقة ماء وجهه والتسول
بشكل من الأشكال،لنا ذاكرة..لنا ذاكرة يرحمكم الله؟؟.
الحبيب عكي