كذبة كبرى كل من يدعي أن مشكلتنا الأساسية في التنمية تكمن في ضعف وغياب
ثقافة العمل بالمشروع،و وهم فظيع كل من يدعو إلى تنمية هذه الثقافة عند الهيئات والأفراد
و على كل المستويات،ويرى فيها الحل الأمثل لمعضلتنا التنموية؟؟.صحيح أن المشروع قمة
في التفكير السنني ويظل برامج وأنشطة وخدمات ومنتوجات مهيكلة في الزمان والمكان مبنية
على تكاليف وميزانيات وأهداف و وسائل وإنجازات وتقييم ومتابعة ومحاسبة،في شكل
خريطة طريق مفصلة و واضحة لتشخيص المشاكل والاختلالات وسعي حثيث لتلبية الحاجيات
والمطالب وبلورة الأفكار وتنزيل الحلول وتنظيم التدخلات على أرض الواقع في شكل عمل
جماعي وتعاوني للقرب يقتصد الجهود ويختصر المسافات ويحقق الانتظارات؟؟،ولكن يبدو
أن كل هذا مجرد دوامة وعبث في غياب العديد من شروط الثقة والشفافية والجدية في طقس
الإنجاز ومناخ المرجعية والمعيارية و ربط المسؤولية بالمحاسبة بالنسبة للجميع
وإليكم بعض التفاصيل:
فكم من مشكل سياسي أو اقتصادي،ثقافي
أو اجتماعي،قطري أو قومي وأممي كانت له أدق الدراسات وأنضج المخططات وأدق البرامج
والمؤشرات والتواريخ والمكلفين والميزانيات والمتابعات..وظل حبرا على ورق،في
التعليم والتشغيل وفي الصحة والسكن مثلا...،ولا زالت معضلات هذه القطاعات - مع
الأسف - تجر أذيال الخيبة والتراجعات والفشل بل واستجدت للناس فيها حاجات ملحة وقضايا
شائكة جعلت المشاكل القديمة تستفحل إن لم تكن قد وصلت إلى الهاوية والكتلة الحرجة
التي تستحيل معها المعالجة مهما حسنت النوايا وجدت التدخلات؟؟. إن هذه المقدمة لا
تطعن في أهمية وضرورة المشاريع في شيء كما قلنا،فكل الأفراد والهيئات و الأمم لم
يتقدموا ويدخلوا صف الناجحين المرودين للطبيعة والمتغلبين على الظروف إلا باعتماد
المشاريع وتربية كل الأجيال والفئات على ثقافتها وما يتعلق فيها بأصالة الفكرة
وحسن الإعداد إلى حكامة التدبير وجودة الخدمات إلى أفاق النجاح والاستمرار
فالمقاولة والاستثمار؟؟.
ولكن ما الذي ينقصنا نحن لننجح في ما نضعه من المخططات التنموية ونبرمجه من
البرامج الاجتماعية أونفتحه من الأوراش العامة الكبرى؟؟،ذات مرة ونحن نتحاور بيننا
كأصدقاء،قال أحدنا:"إن بلدنا رائع ولا أروع ولكن - مع الأسف - تنقصه العدالة الاجتماعية"،وقال
آخر:"بل ما ينقصه بالدرجة الأولى هي الديمقراطية وحقوق الإنسان"،وفي
اعتقادي لا هذا ولا ذاك،بل ما ينقصنا في الحقيقة قبل وفوق كل شيء هو:"الإرادة
الحقيقية والجماعية"،فكما يقول أحدهم:"العمل قدرة وإرادة"،ونحن
ليدنا من القدرات والإمكانيات والحمد لله ما لدينا ولكنها لا تفيدنا كثيرا في غياب
الإرادة الحقيقية والعزيمة القوية والقوة القانونية الملزمة،مما يجعل الأمور بين
القوم وكأنها مجرد استهبال للفرص،وهدر للإمكانيات وتمطيط للزمن لكسب بعض الوقت،وإقصاء
للضعفاء و إسكات للغاضبين ببعض الفتاة،مما لا يعود في الأول وفي الأخير على
معضلاتنا إلا بالاستفحال،أو في أحسن الأحوال معالجة المشاكل بالمشاكل الأكبر والأزمات
بالأزمات الأعقد على الطريقة الأفريقية المعهودة؟؟.
ما معنى أن تعتمد العديد من الدول النامية والسائرة في طريق النمو ونحن
ضمنها مفهوم التنمية بشكلها الجزئي بدل الشمولي المجالي العادل والمستدام؟؟،وما
معنى أن يتغلب فيها الجانب المادي والعمراني على الجانب الإنساني والقيمي الحضاري؟؟،مما
أفقد ويفقد الثقة بين الحاملين المدنيين للمشاريع والداعمين الوطنيين لها؟؟،وما
معنى ادعاء الندية بين الطرفين وإرغام الطرف المدني المسكين على قبول شروط الطرف
الآخر الرسمي ودفتر تحملاته بدل التفاوض والتوافق؟؟،ما معنى أن تطغى ثقافة المشروع
على مشروع الثقافة حتى أسالت جزرتها وما يشبه ريعها المشبوه لعاب من هب ودب،حتى لو
كان الأمر خارج القوانين الأساسية للجمعيات؟؟،ما معنى أن تقصي الدوائر الرسمية
المستضعفين البعيدين عن دوائر القرار،وتضحك الدولة على حاجياتهم وتفوت بعضها الملح
والضخم إلى مجرد الإحسان العمومي والتطوع المدني؟؟،لماذا نتحدث عن نهب الميزانيات
الضخمة وتهريب مشاريع إلى مناطق وجهات غير مقررة وليست جهاتها الأصلية؟؟،لماذا لا
تمتلك الدوائر الداعمة الشجاعة لإجراء مداولاتها بحضور حاملي المشاريع؟؟،لماذا لا
تملك الشجاعة في تبرير كتابي لقبول أو رفض أي مشروع؟؟،
لماذا لا زالت الحساسيات السياسوية والمغلفة بالقانون أحيانا تطغى على مصالح
المواطنين وتذبح الاختيار السياسي والتنموي للدولة في ضرورة إعمال الشراكة بين
القطاعات الحكومية والمجتمع المدني؟؟،أين هذه القطاعات وأبوابها موصدة في وجه
الجمعيات،وفيها من احتكار المعلومة ما فيها إلى درجة أن رصيدها في الإعلان عن
شراكاتها في البوابة الإلكترونية للحكومة يكاد يكون لا شيء؟؟،لماذا تؤسس في الغالب
لكل دعم عمومي جمعيات صورية حزبية وحكومية تمنحها المنح والمشاريع على حساب
الجمعيات التي كسرت أنيابها في العمل الميداني؟؟،لماذا كل هذه الحراكات الوطنية
والاحتجاجات الشعبية في مختلف المدن والقرى؟؟،أين تلك المخرجات الضخمة للحوار
الوطني حول المجتمع المدني؟؟،هل لازالت الدولة تريد أن تسعى فقط بالمجتمع المدني
الذي استطاع تعبئة حوالي 17 مليار من الرأسمال الأجنبي؟؟،لفائدة من تمنع الجمعيات
من استثماراتها الخاصة التي يمكن أن تغنيها عن التسول على أبواب القطاعات الرسمية
أعطوها أو منعوها؟؟،لماذا عمرت جل المعضلات التنموية عقودا وعقودا رغم اختلاف
السياسات وتعاقب الحكومات؟؟،لماذا تحدثنا بالأمس وعلى أعلى المستويات الرسمية عن "السكتة
القلبية" ولازلنا نتحدث اليوم وعلى أعلى مستوى رسمي أيضا عن "النموذج
التنموي الفاشل"؟؟.
الحبيب عكي