جزرة العبث في ثقافة المشروع إلى أين؟؟
ربما كان التألق الذي عرفته الجمعيات فيما مضى وعلى قلتها،أنها كانت تعمل بمثقفين
حقيقيين وفي ما يسمى ب"مشروع الثقافة"بدل"ثقافة المشروع"،وكانت
تعرف أن قانونها الأساسي خاص بها،وما كانت تروم القيام به من أنشطة ومشاريع إنما
تهمها هي قبل غيرها،فكانت تتكلف في ذلك بكل شيء من وسائل مادية على شحها وعناصر
بشرية وفئات مستهدفة شعارها في ذلك:"ما حك جلدك مثل
ظفرك"و"واستقلال التمويل يضمن استقلال القرار"،فلا تنتظر أحدا
غيرها ولا تعتمد عليه أعطى أو منع،فكانت التربية الجمعوية الحقة على البذل
والتضحية والنضال المدني الفعال والمرافعة الحقوقية الشرسة والمثمرة،وكانت الأدوار
التاريخية للمجتمع المدني لصالح الفئات الهشة والمستضعفة ضد الشموليين
والديكتاتوريين،وقد ساهم في هذه التربية الجمعوية وتخرج من مدارسها الشعبية الكثير
من الأطر اليسارية والإسلامية على السواء منهم الباقية الباقية التي لازالت تسير
العديد من هذه الجمعيات الممتدة في الزمان والمكان بل والعديد من دواليب الدولة وقطاعاتها
بنجاح؟؟.
ولكن يبدو أن الأمور اليوم قد
تغيرت في رمشة عين وبقدرة قادر،فأصبحت الجمعيات على كثرتها وكبر تدخلاتها وكأنها لا
أرضا تقطع ولا ظهرا تبقي،لا لشيء إلا أن جلها قد أغرته جزرة عبث المشاريع وأسال
لعابه ما يشبه ريعها،ليهوي بمعظمهم جميعا في مستنقع "ثقافة
المشروع"بدل"مشروع الثقافة"؟؟،وفي غياب مشروع الثقافة هذا أصبحت
بعض الجمعيات وكأنها محترفة في الهرولة إلى أي مشروع مهما كان،حتى لو لم يكن داخل
اهتمامها ولا عنيت به قوانينها ولا كانت لأطرها خبرة في دفتر تحملاته؟؟،حتى لو
تركت مشروعها الأصلي ودخلت في مشروع الآخر مجرد عبد مستأجر وبدريهمات معدودات،وطبعا
من أسباب هذا التحول الغريب والمخالف لطبيعة الأطراف،شراسة المعركة التي كسبتها
الدولة في تدجين بعض المجتمع المدني ورسم حدوده ومعالمه بل وإنشاء بعض هيئاته حتى
في الوديان والسهول؟؟،ولكن الذي لا يفهم هو كيف تسعى بعض الجمعيات الضحايا إلى ابتداع
ثقافة تبرر لها انحرافها ذلك من مثل:المشروع ثقافة سننية وخريطة طريق،والشراكة تعايش
تنسيق وتعاون،وقد مضى عهد كانت تقوم فيه الدولة أوالمجتمع بكل شيء،فما يضر أن يكون
بينهما بعض التنسيق والتعاون،المجتمع المدني برصد الاختلالات واقتراح الحلول
والدولة وقطاعاتها بالتمويل والمتابعة والمحاسبة؟؟.
ولكن ورغم ذلك - مع الأسف -
يبدوا أن الأمور لا تسير على ما يرام لا في معسكر"مشروع الثقافة"الذي لا
زال يعاني ويضيق على فعله من قلة الإمكانيات كما وكيفا في الزمان والمكان؟؟،كما
تضيق الأمور كذلك في معسكر"ثقافة المشروع"رغم كل التهليل والتطبيل،فلا
تزال العديد من المشاكل عالقة بين حاملي المشاريع وداعميها،بشكل يعرقل جهود
التنسيق والتعاون بينهما،ويحرم الفئات المستهدفة من الحظوة بخدمات طالما انتظرتها
وألحت في طلبها من الجميع؟؟، فمن جهة يرى الحاملون للمشاريع أنهم يبذلون جهدا جبارا
في التفكير في المشاكل الاجتماعية و في رصدها وتحليلها واقتراح الحلول المناسبة لها،في
إعداد المشروع وفق المعايير المطلوبة والتخطيط والبرمجة،في وضع المؤشرات والتكاليف
والميزانيات،في توفير الوثائق القانونية واحترام الآجال ومساطير الدفع والتنقلات وكل
ذلك أكثر من مكلف؟؟،ليضرب كل ذلك في الأخير عرض الحائط فلا يؤخذ المشروع بعين
الاعتبار ولا يحظى بالدعم الموعود، بل يكون مصيره بكل بساطة سلة المهملات وحتى دون
شجاعة مبرر مكتوب؟؟.
ومن جهتهم يحتج المانحون
وخاصة المحليون والجهويون منهم بقلة الموارد وكثرة الطلبات،أو هكذا قضت اللجن المكلفة
وقرارات المجالس؟؟،والواقع أن الأمر ليس كذلك بالتأكيد إذ يسجل غياب طرف الحاملين للمشاريع
أثناء المداولات بشأن مشاريعهم أولا،كما يسجل تدخل المتدخلين في مختلف الدوائر لحجز
ما يمكن حجزه من التمويلات ثانيا،و كذلك حظوة المحظوظين الذين ولدت جمعياتهم بملاعق
من ذهب ويحظون بالمنح والشراكات على الدوام وطبعا على حساب غيرهم ممن تعوزهم التدخلات
والوساطات،وكأن الأمر كله مأدبة من أجل بعض المقربين والمرضي عليهم واعتقد الآخرون
المقصيون والمهمشون أنهم أيضا مواطنون معنيون فجاؤوا إلى الوليمة بدون دعوة وجلسوا
بدون فرش؟؟.
1-
ما معنى أن تعلن الدولة وتتبنى سياسة القرب وضرورة الشراكة مع الهيئات
المدنية وفق دفاتر تحملات ومهما كانت مرجعياتها،فتجد قطاعات وهيئات حكومية لازالت
تستهويها سياسة غلق الأبواب بإحكام،شعارها في ذلك :"خير الشراكة والجمعيات
ألا أراهم ولا يرونني"؟؟،وإذا ما ألزموا بفتح الأبواب ونشر المعلومة وعقد
الشراكات فتحت الطاولة بشكل مميع وغير شفاف ينحرف بها عن الأهداف التنموية المتوخاة؟؟.
2-
ما معنى أن ترفض مشاريع هادفة لهيئات مدنية فاعلة أعدتها بحكم الخبرة
والتجربة والممارسة الميدانية،في حين أن مشاريع أقل منها فكرة وتوطينا تقبل،خاصة
إذا كانت في ذلك الاتجاه التهريجي والتبذيري الذي تندد به العديد من فعاليات المجتمع
من تظاهرات ومهرجانات لا تتقدم ولا تؤخر إلا في تشويه المسار والاختيار،وفي سوق
النخاسة وتشويه السمعة على حساب المشاكل التنموية الحقيقية للمواطنين؟؟.
3-
لفائدة من يهدم جسر التواصل بين الجهات المانحة والهيئات المدنية الحاملة
للمشاريع،فلا تتمكن الأطراف لا من الاطلاع على السياسات والحاجيات والمعلومات ولا
على الإمكانيات والطاقات وأوجه التدخلات الممكنة،فبالأحرى أن نطمح يوما إلى الحق
الدستوري في الشراكة في وضع السياسات وتنزيلها ومتابعتها وتقييمها والمحاسبة عليها؟؟،
4-
ما معنى خلق هيئات صورية حكومية وحزبية غير مستقلة تحظى بالدعم والمشاريع والمقاعد
على حساب غيرها من الفاعلين المدنيين الميدانيين،وما معنى أن تسطو القطاعات
الحكومية والجماعات المحلية والمصالح الخارجية على موارد المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية على حساب الجمعيات التي خلقت من أجلها في الأصل؟؟.
5-
ما معنى تلك المنح "الصينية"لبعض المجالس الجماعية والجهوية بحيث
تساوي في قدر منحها الهزيلة للجميع رغم تفاوت الأفكار والمشاريع والأبعاد المحلية
و الوطنية،وما معنى أن تؤثر بمنحها فئة من الجمعيات الفنية والرياضية والمهرجناتية
دون غيرها من الجمعيات الثقافية والتربوية والحقوقية والبيئية والاجتماعية التي
تهتم بالفئات الهشة من النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة؟؟.
إن ثقافة المشروع والشراكة اليوم قد تجاوزت في العديد من الدول المتقدمة ثقافة
المشروع والترافع إلى مستوى ثقافة التنظيم على مستوى الأحياء وحوار السياسات والمقاربات
بين السلطات و ممثلي الجمعيات،فقط من يعلن عن إشكال ويقترح له حلا مناسبا حتى يجد الجميع
يساعدونه في الحل دون لف ولا دوران،ويحيطونه بالشكر والتقدير على روح مواطنته
العالية،بدل أن يوهموه ويتهموه ويمسحوا بكرامته وأوقاته الأرض والسماء؟؟،وأساس ذلك
التوجه الأول كله يكمن ولاشك في ذلك الذي نفتقده نحن ألا وهو الثقة بين المسؤول
والمواطن،ومحاسبة المسؤول لنفسه على ما يقضيه من أغراض الناس ويستبق من القنابل
الموقوتة للمشاكل والمعضلات قبل أن يحاسبوه؟؟،وهو ولاشك ما يحمل السلطة في هذه
الدول على النزول إلى الأحياء والبحث عن الفعاليات و حوار الجمعيات والاستجابة
لمطالبها والتنسيق والتعاون على استدامتها وصيانتها،ولا أرى لماذا وإلى متى سيظل
الشك والتماطل وربح الوقت والتفرج على المشاكل واحتكار الحلول والتدخلات هو السائد
عندنا،وهي أشياء خطيرة وأوجه من الوهم والعبث تقتل كل شيء وكل أمل في الديمقراطية
الحقيقية والمقاربة التشاركية مهما ادعى المدعون؟؟.
الحبيب عكي