حتى لا يكون المجتمع المدني أول ضحايا التطبيع؟؟
قبل التطبيع الواضح الفاضح، كان المغرب – كما هو معلوم – ضد غزو العراق
للكويت، وضد نظام "صدام حسين" وسياسته القمعية أو عبثيته البعثية إن صح
التعبير؟، ولكن ما أن غزت أمريكا دولة العراق الشقيق، وبدأ جنود "جورج بوش"
الأرعن تحطم فيه كل معالم التاريخ والحضارة، بكبرياء وشماتة، حتى هبت المسيرات
التضامنية المليونية في مختلف شوارع المملكة الشريفة، وسمح النظام بذلك رغم مواقفه
المعروفة والمتصلبة في الموضوع، ورغم عنجهية أمريكا وشعارها الجهنمي أنذلك: "أنت
معنا أو مع الإرهاب"؟؟، ورغمها كانت المسيرات وكانت المهرجانات والتظاهرات، إنها
حرية التعبير، و واجب النصرة والتضامن اللذان كان يكفلهما نظام المرحوم الحسن
الثاني رغم كل شيء؟؟.
واليوم بعد التطبيع الواضح الفاضح، منعت مثل تلك المسيرات الشعبية الحاشدة الغاضبة،
التي كان سيعبر فيها الشعب المكلوم عن رأيه الرافض لما أقدم عليه النظام من فضيحة
التطبيع مع الكيان الصهيوني المستعمر الغاصب، كان من الضروري أن يقول الشعب فيها
رأيه، خاصة وأنه قد مس في قضية طالما اعتبرها قولا وفعلا قضيته الوطنية الأولى لا
تقبل المقايضة، وبالمقابل من ذلك، ورغم أن النظام المطبع مع الصهاينة لازال يقول
أنه مع فلسطين، كيف تقوم الأجهزة المخزنية الآن بمنع المسيرات الأولى، وبإنزال بعض
البلطجية المدنية في مسيرات "زروالية" للتعبير عن الفرح المزعوم والذي
لم تعبر عنه أي من الهيئات المسؤولة والمعتبرة، بما في ذلك المجالس العلمية والمجالس
التشريعية والأحزاب السياسية والنقابات، التي يبدو أنها لم تستشر في الأمر أصلا؟؟.
والآن، ماذا سيقول المجتمع
المدني لرواده ومتعاطفيه والرأي العام الوطني والدولي، وكيف ستبني جمعياته
المناضلة دفوعاتها ومرافعاتها في قضية طعنت من الخلف غدرا وخيانة ومن طرف الأشقاء
والمقربين، المشارقة والمغاربة على السواء؟؟، وعلى من ستقترح هذه المنظمات المدنية
العتيدة قوتها الاقتراحية وتقدم بدائلها الإصلاحية أو تفتح حوارات أملها وهي اليوم
بقدرة قادر أصبحت مخنوقة، كيف لا، وقد جاءت الثقافة التطبيعية تنقلب على كل
مكتسباتها الحقوقية، في حرية التعبير والمساهمة في التغيير، وتنسف كل لبناتها
التشاركية في الإصلاح، وتعتصر صدور عامليها اعتصار جائحة "كورونا" لصدور
ضحاياها الأبرياء، كان الله في عوننا و عونهم وحتى التنفس الاختراقي قد أصبح لا
يسعفهم إلا بمشقة الأنفس؟؟.
ماذا سيبقى من ثقافة
المجتمع المدني وكل المفاهيم قد أصابتها "كورونا" التطبيع والتركيع
والتضييع، فإذا مجرد الكيان قد أصبح دولة، والدولة دولتين، والعاصمة عاصمتين،
والكيل مكيالين، وبيت المقدس ربما بيت الهيكل، وتل الربيع تل أفيف، واغتصاب الأرض
استيطان، وعدو الأمس صديق اليوم، والاستسلام صلح، والهزيمة سلام، والمقاومة إرهاب،
والشهيد انتحاري..والمهجر لاجىء..؟؟. ماذا تحقق من مطالب الشعب الفلسطيني وماذا
رفع عنه من المظالم حتى تتبدل المواقف وتنفلت تكتلات المقاومة؟؟، هل حررت
الأراضي؟، هل وقف الاستيطان؟، هل أقيمت الدولة؟، هل عاد المهجرون..وهل..وهل..لا
شيء؟؟.
لاشيء من ذلك تحقق، ولا
غرابة في ذلك، فدولة الكيان اللقيط لم تعرف يوما شيئا اسمه ثقافة أو مجتمع مدني،
لم يعرف guetto صهيون غير الصواريخ الباليستية والدبابات المدمرة والقنابل
الانشطارية العنقودية منها والفوسفورية..، ولا زالت المشاهد المؤلمة للعدوان
الصهيو-أمريكي على غزة تدمي القلب والوجدان، إذ بنيرانها احترق الأطفال الأبرياء،
وهدمت عليهم منازلهم، واستشهدت أمهاتهم، وأسر إخوانهم وهجر من بقي حيا من أبائهم..،
باسم السلام الذي بمثل هذه الأعمال الإجرامية لم يكن يوما ليأتي ولو في المنام،
مهما حرص على ذلك المطبعون، واستسلم من أجله المستسلمون، وحاول تلميع وجه المأساة والبشاعة
المحاولون، فشاربوا الدماء الصهاينة يوم يكفون عن ذلك يهلكون؟؟.
ولكن الأن، هل بمجرد
التطبيع الفوقي والأفقي للأنظمة المغلوبة على أمرها، سيكون هؤلاء المجرمون من
الصهاينة أصدقاؤنا؟، وهؤلاء المغتصبون لأراضينا سياحنا؟، وهؤلاء المهجرون لأبنائنا
من أراضيهم مستثمرونا؟، والطاردون لأشقائنا الفلسطينيين من منازلهم ضيوفنا
وجيراننا الذين كانوا يوما في بلادنا؟، وغيرهم من العابثين بمقدسات الأمة هناك
زوارنا؟، وهؤلاء الخبثاء من مجرمي الموساد متعاونونا ؟، وفي ماذا؟، في نسف جهود
المجتمع المدني الذي طالما صدقنا أنه أصبح شريكا للدولة في مشاريعها التنموية ومقارباتها
الإصلاحية الحاضرة والمستقبلية، فإذا به وكأنه لا شيء..لا شيء؟؟، في تكميم أفواهه
التي طالما صدحت في محاضراتها ومهرجاناتها الفنية والمسرحية بأن التطبيع خط أحمر
من أحمر؟؟، وإذا بكل الخطوط عند المطبعين خضراء في خضراء لا وجود فيها للأحمر أصلا،
يقولون بشكل رسمي نحن مع فلسطين وإذا بهم يطبعون، كمن يقول
لفلسطين:"معاك..معاك" ولإسرائيل:"وراك..وراك" ههييهه؟؟.
وأخيرا، قد يسكت الساكتون
أو يطبل المطبلون خوفا أو طمعا، جهلا أو تجاهلا، ولكن لا عذر للفاعل المدني في شيء
من هذا، أولا لأنه لا يطمع في مقاعد برلمانية أو جماعاتية لا يستحقها ولا يترشح
لها، ولا يتهرب من ضرائب اقتصادية تخفف عنه بعض الأزمات أو توثره ببعض المشاريع
والصفقات يكون غيره أولى بها ؟، ثانيا، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، ذاتية، لكون
الفاعل المدني طليعة الشعب ولسانه الذي ليس في سكوته عن تبيان الحق غير الخراب وطغيان
الاستعلاء؟، وموضوعية، لارتباط شيوع التطبيع في حد ذاته بقمع الحرية وهدر الكرامة
التي لن يمر إلا على جثتها، وضمنها جثة الاستبداد بالمبادرة في اتجاه سلطوي واحد
هو الخدمة المجانية للصهاينة وللمطبعين معهم؟؟، لذا تبقى مناهضة التطبيع أشرف معركة
ينبغي الانخراط فيها بكل وعي ومسؤولية وبذل وتضحية، وذلك:
1- بالوعي بخطورة التطبيع..ومنطلقاته التوسعية المدمرة.
2- بحجم خرابه في الدول المطبعة..وخيبة أملها في
السلام.
3- بالالتفاف والتعاون مع الهيئات المقاومة وتعضيد
رموزها.
4- برصد المخططات الميدانية لهذه الآفة المعضلة والتصدي
لها في مختلف المجالات.
5- بالدفاع عن الحق الدستوري في التعبير عن الرأي
وتنظيم المسيرات التضامنية التي بدأت تمنع وتقمع الآن.
6- بالترافع من أجل الحق في رفض قوانين التطبيع وما
يغترف منها في الحريات العامة والأنشطة الجمعوية والمقررات الدراسية والمهرجانات
الفنية..؟؟.
7- بالانخراط الفعال لجمعيات المجتمع المدني في
مقاومة التطبيع عبر برامج تربوية وثقافية وفنية..لكافة روادهـا، ووفق خطها الأصيل
الذي لا يشوه الحقائق التاريخية ولا يتستر على الفضائح التطبيعية التي تاهت وتتيه
بالقضية، دون إغفال الشبهات المستجدة اليوم في الموضوع كالربط التعسفي للقضية الفلسطينية
بالصحراء المغربية، أو قولهم" تازة قبل غزة"، و"مصالح المغرب مع
إسرائيل"، وهناك "المكون العبري في الدستور"، وحق"اليهود
المغاربة في إسرائيل"..، وأعتقد أن للحركة الإسلامية أرشيف ثري في الموضوع
يستحق النبش فيه أنشطة ومواقف ومرافعات؟؟.
8- بالاهتمام بالقيم التضامنية واليقظة لبرامج وأنشطة
التطبيع المخربة اتجاه الدين والقيم والسياسة والاقتصاد، وإفساد طاقات الأمة من الطفولة
والمرأة والشباب، ونخب السياسيين والمثقفين والمستثمرين والفنيين والرياضيين..،
بما يراد من تقبل قلب الحقائق لديهم وتشويه المفاهيم والجبن على الخوض في المأساة
كما هي، فإذا العدو صديق، والاستسلام سلام، وحتى حل الدولتين دولة، والمقاومة
إرهاب...، والوحدة الوطنية انقسام رغم أنف الشعب و"ياسين"
و"القسام"؟؟.
9- بمناظرات إعلامية مع المطبعين من السياسيين
والمثقفين والفنانين والسينمائيين والرياضيين والسياحيين..،لفضح هرولتهم وأنشطتهم
وصهينتهم وخبث مبادراتهم..، واستثمار بعض المواقع الفعالة في ذلك كالفضاء الجامعي
والمتاح من المؤسسات، والعالم الرقمي والافتراضي بما يمكن أن يستوعبه من الأنشطة التواصلية
والإشعاعية والوقفات الاحتجاجية والعرائض الإلكترونية..، و غير ذلك مما بدأ يمنع
في الواقع والساحات والشوارع العامة، نعم ينبغي الإبداع في سبل المقاومة، ولا يغلق
المطبعون بابا إلا فتح الله بدله أبوابا؟؟.
10-باعتماد كافة سبل المقاومة السلمية المتاحة والمشروعة والقانونية في
المعركة وضمنها المقاربات المدنية العلمية والثقافية، الفنية والسياسية..، الوطنية
والدولية..، كما ساد في وقت مضى في الثمانيات والتسعينات من المحاضرات والمهرجانات
والأسابيع الثقافية والمسرحيات "المسرحيات"، وتأليف الكتب والروايات
وتنظيم المعارض ومسابقات النصرة وحملات التضامن؟؟.
وإذا كان للدولة إكراهاتها واصطفافاتها عن
جبر أو اختيار أو ابتزاز أو احتيار، فللمجتمع المدني اختياراته والتزاماته إلى
جانب الشعوب ومصالح الأمة كما ظل على ذلك دوما وطوال تاريخه العالمي، الضمير
الفكري لشعوب الأمة، صاحب الرؤية الثاقبة والرسالة الواضحة، يأمل إذا يئس الناس،
ويبادر إذا عجزوا، ويتكلم إذا صمتوا، ويستقيم إذا انحرفوا، وينهض إذا
تعثروا..وينجح إذا فشلوا؟؟، فإن ينحرف اليوم - تحت أي طائل كان - فعلى نفسها
وشعوبها جنت "براقيش"، يوم تأتي عليه محطات وسياسات تطبيعية لا يستطيع
فيها وبسببها حتى تأسيس إطاراته المدنية، ولا الحصول على حقه من المتاح من
الفضاءات العمومية، ولا ممارسة المعتاد من أنشطته التربوية والتكوينية، فبالأحرى أنشطته
الترافعية والاحتجاجية والتضامنية..الوطنية والدولية..؟؟، لأنها عند المطبعين
والمتسلطين لها علاقة بشكل ما، واحتمال ما، محتمل أو غير محتمل، بمقاومة التطبيع
وهو ممنوع؟؟، صحيح أن المجتمع المدني لا يكون إلا في إطار الدولة والمشروعية،
وتقويتهما وتكاملهما، ولكن أيضا في ترافعه ضدهما وترشيدهما عند اللزوم، وحق له أن
يمكن من ذلك، وإن لم يكن وإن تقاعس عن ذلك مهادنة أو مداهنة أو جبنا أو متاهة، فلن
يؤدي الأمر إلا إلى طغيان الفساد السياسي وانحراف قراره لخدمة مصالح وأجندات باسم
الشعب وهي بالتأكيد ليست مصالح الشعب؟؟، فمزيدا من الوعي واليقظة، مزيدا من الحرص والمواكبة،
وعسى بشيء من الصمود والتصدي أن تعود الأمور يوما إلى طبيعتها وأفضل، أوعلى الأقل
إيقاف الممكن من قطارات التطبيع الداهسة وحدتها،"والله غالب على أمره وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" يوسف/21.
الحبيب عكي