نحو تعزيز الاهتمام الثقافي بالقضية الفلسطينية.
لاشك أن معارك الشعوب ونهضتها وتحررها،إنما تبنى في الأس والأساس على معارك
ثقافية،باعتبار هذه الأخيرة وسيلة حاسمة في صناعة الإنسان وبالتالي صناعة الحضارة
التي تتدخل بدورها في تغيير الطبيعة وفق التصورات والقيم الثقافية للإنسان حتى
قيل:"التصور عنوان التصرف"،ورغم كل هذه الأهمية القصوى لدور الثقافة بمفهومها
الأنتروبولوجي الواسع في توضيح المفاهيم والتصورات و كسب المعارك ورفع التحديات
وتحقيق الرهانات،فقد عرف الاهتمام بها عبر مسار القضية الفلسطينية في الآونة
الأخيرة - مع الأسف - تراجعا غير مفهوم أدخل العديد من الاختلالات في التصورات
والممارسات،مما جعلها تتراجع في مختلف المجالات الحيوية وعلى رأسها المجالات
الثقافية المؤسسة لغيرها من المجالات؟؟.
ومن المفاهيم الثقافية التي
التبست على الكثيرين وتراجع على إثرها وبسببها مستوى اهتمامهم بالقضية،على الأقل
مقارنة مع الزخم الذي كانت تعرفه في عقود السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات،حيث
كنا نستمتع ونتربى على العديد من العروض والندوات والمهرجانات والمعارض وغيرها من
الفعاليات الثقافية للقضية،والتي كانت هي الثابت والشاسع في مختلف برامج وأنشطة كل
الهيئات الثقافية والمؤسسات التربوية والتنشئة الاجتماعية من دور الشباب ومسرح
الهواة والمسرح الجامعي والمخيمات الصيفية والأسابيع الثقافية والتضامنية لجمعيات
المجتمع المدني؟؟،هيئات وهيئات أصبح العديد منها اليوم - مع الأسف - يفتخر بأن
العرض والمعرض والأنشودة والمسرحية الفلسطينية قد أصبحت عنده من الممنوعات تحت
شعار:"كفانا بكاء وصراخا،ولنعش حياتنا بلا هموم ولا مشاكل"؟؟.
ومن المفاهيم الثقافية
الملتبسة في القضية والتي حاولت وتحاول جهات وسياسات تطبيعية وتكنولوجيات وثقافات
تبسيطية،تسطيحها وتغليطها لتحييدها وتجاهلها في بناء التصورات والممارسات والاتزامات،نذكر
ما يلي:
1- في سبب التبني والتعاطف مع القضية: وهل هو عقائدي كما ينبغي،لازال واضحا وناطقا إلى يوم الدين،كما قال
تعالى:"سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي
باركنا حوله"الإسراء/1. وفي الحديث:"مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في
تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ َوتعاطُفِهِمْ،مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ
عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى"/ متفق عليه.و المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض،ومن لم يهتم بأمرهم فليس
منهم؟؟،أو فقط كما يقول ع.برشيد في تفسير الاهتمام الفني القوي بالقضية:"نريد
أن نحرر هنا من هناك ونحرر هناك من هنا"،وكل هنا وهناك لازال لم يحرر ولم
ينمى بالشكل المطلوب؟؟.
2- في مفهوم العروبة: إذ كثيرا ما نصيح:"قولوا لتجار السلام..فلسطين عربية..لا تفوض لا سلام..لا
حلول استسلامية"، فماذا تبقى من العروبة إذا قصرت نظرتها إلى قيم الحرية
والأمن والكرامة والعدالة والنصرة والتضامن..؟؟.أين الجامعة العربية وقممها من
شعارات المصير المشترك والدفاع المشترك والرفض والتصدي،وقد أصبحت اليوم - مع الأسف
- أكبر مسلم في حق الشعب الفلسطيني،بل ماذا أصبح يجمع العرب في المشرق والمغرب غير
التبعية والتمزق وحروب البعض على البعض وثورات الربيع العربي على أنظمة التخلف والفساد
والاستبداد،فكيف ستصبح فلسطين قضيتهم ولكل منهم قضية وقضية بل هم أنفسهم قضايا
وقضايا شائكة؟؟.
3- في معنى الدولة والسلام: من دولة جامعة مانعة حرة آمنة تشمل فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر
شعارها:"أمس واليوم وغدا،الأرض كل الأرض لها اسم واحد هو فلسطين"،إلى
مجرد خنادق غزة والضفة على ما يقارب حوالي 27 % فقط من
الأراضي الفلسطينية كما يقول "عباس أبو مازن" بدل دولة تقوم على حدود 67
أو حدود ما قبل النكبة في 48 ؟؟، دولة تنفصل فيها الضفة عن غزة رؤية ومنهاجا فتحاصرها
وتقطع عنها الأجور والنور والإمداد وتقود فيها مسلسل الاعتقالات والاغتيالات باسم
الكيان ونيابة عنه؟؟،دولة مطلوب منها حسب "صفقة القرن" تفكيك الجيش الفلسطيني
ونزع سلاح المقاومة وعدم طرد اليهود من منازلهم مقابل عدم طرد العرب من منازلهم،وهو
كما يقول عزمي بشارة:"اعتراف واضح وصريح بالمستوطنات"،أو كما يقول عباس
أبو مازن:"دولة موظفة"؟؟.
4- في معنى المقاومة والمرابطة على المقدسات: مقاومة كبدت العدو خسائر عسكرية فادحة ونفسية مريرة جعلته يأخذ ألف حساب
وحساب قبل إقدامه على ما ألفه من حماقاته العدوانية البشعة؟؟،وفيما يرى البعض أن
هذه المقاومة الباسلة هي سبب التصعيد والتوترات،فإن المحللون يرون فيها عكس ذلك
وأنها هي من أبقت على القضية حية لأن شعارها:"ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا
بالقوة"؟؟. أما بخصوص المرابطة على المقدسات من طرف المقدسيين والمقدسيات،فهم
يرابطون على أوقاف الأمة ويصبحون ويمسون على أعتابها،وهل تصدقون كما تدعي
"صفقة القرن" أن الكيان سيشرف عليها ويضمن العبادات في أماكنها والتجوال
في ساحاتها،وهو الذي يقوم بالحفريات المستمرة تحتها،وينوي هدمها لإقامة الهيكل
مكانها،وهو اليوم لا يترك المصلين يمرون إليها إلا بالتصاريح وعبر المعابر
والأسلاك الشائكة والمكهربة والكاميرات الإلكترونية، وفي الأخير،إطلاق النار بشكل
عشوائي على المصلين؟؟.
5- في كثير من الشبهات القطرية الزائفة: التي رافقت وترافق التاريخ المزيف للقضية من مثل:"تازة قبل
غزة"،و"بطالتي قضيتي"،و"إنما نطبع مع جاليتنا اليهودية
هناك"،و"الأرض مقابل السلام،والتطبيع مقابل المساعدات والأمن والتطبيع مقابل
الكراسي"،و"شعب الله المختار،وهو شعب بلا أرض،عاد إلى أرض الميعاد،وهي
أرض بلا شعب"؟؟.أو"لماذا باع
الفلسطينيون أرضهم للمستوطنين اليهود ثم جاؤوا اليوم يبكون علينا"،ولماذا
نقاطعهم نحن والفلسطينيون يشتغلون عندهم في أراضيهم ويعبرون إليهم المعابر،بل
ويسكنون عندهم في أراضي 48 ويقبلون بالتالي تسيير شؤونهم،الدولة حرة والقرار مستقل
وليس بالإمكان أفضل مما كان؟؟،وكلها شبهات مخدومة غرض مروجيها إضعاف التعاطف
والتضامن مع القضية وخلق نوع من الفتور والحياد اتجاهها في أحسن الأحوال،إن لم يكن
طي ملفها النضالي والتضامني المساند لها و الهرولة إلى التطبيع مع العدو الصهيوني
الغاصب،وعدم إشهار سلاح المقاطعة الموجعة في وجهه الكالح؟؟.
فهل نعي يا قوم، حجم التلوث
الفكري والانحراف الثقافي الذي أصابنا وشبابنا اتجاه القضية؟؟،هل نفهم كل هذا
التراجع المهول الذي أصبحت تحظى به اليوم في برامجنا وأنشطتنا والتجاهل والتضييق
الخانق في إعلامنا،مما يصيب "هنا" في المقتل قبل "هناك"،فالشباب
يكون متحمسا لكل شيء أو لا شيء؟؟.والحالة هذه،فلا مخرج لنا من هذه الأزمة إلا
بإعادة بناء الإنسان وإعادة التوهج للقضية في مختلف المجالات وعلى مختلف المستويات
وبالممكن من الحوامل والمداخل والأدوات، وفي مقدمتها وبالموازاة معها المجال الثقافي
التربوي والفني والإشعاعي،فيا جمعيات المجتمع المدني ويا أيتها الحركات الإبداعية والمؤسسات
التربوية والتنشئة الاجتماعية، حيا على العروض الفكرية حول القضية
تاريخها،إشكالاتها،رجالاتها،الفاعلون فيها،مقدساتها وخرائطها،أصدقائها وأعدائها،
مقاومتها وبطولاتها،نجاحاتها وإخفاقاتها وأخطائها،حلولها الفاشلة وحلولها الممكنة،الوضع
الحالي والرؤية المستقبلية،الرهانات والتحديات..؟؟،قصصها وروايتها وأشعارها (محمود
درويش وتميم ألبرغوثي) وأفلامها القصيرة والطويلة،مسرحياتها الحماسية،معارضها للنشر
والكتاب والمخطوطات والكوفية والتراث..مهرجاناتها الخطابية والثقافية وحملاتها
ومسيراتها التضامنية..، دون أن ننسى الواجهة التشريعية التي نتمنى أن تكف عن جبنها
وتسارع بإصدار قانون الحض على المقاطعة و تجريم التطبيع؟؟.
الحبيب عكي