علمنا الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله/12 (الأخيرة)
12-
معنى الشغف بطلب العلم وحب المعرفة.
لا شك أن من أهداف العمل الجمعوي بحمولاته التربوية والثقافية والفنية المتعددة الأبعاد، هو الاسهام في البنيات التنموية بشكل عام وتيسير سبلها الرامية إلى التغلب على القهر الطبيعي وكوابح الجهل المتفشي ومكدرات التخلف الأخلاقي والاجتماعي. من هنا يطرح السؤال الحقيقي، ما هو العمل الجمعوي؟، وما هو العمل الجمعوي الذي يساهم حقا في هذا الاتجاه التنموي، كيف ولماذا؟، بل ما هي هذه التنمية المنشودة؟، خاصة وأن تاريخها إلى اليوم، لا زال يؤكد أنها مركب غاية في التعقيد وإن رآها التنمويون بشكل عام :"على أنها تحول شمولي من حالة إلى أخرى تحسب إيجابية وأفضل"، فلا زالت مجمل الدول على اختلاف مستوياتها وتوجهاتها، لا زالت تعافسها وتأبى إلا عدم التطاوع لها بالشكل المطلوب، رغم كل تجاربها الذاتية والغيرية، اقتصادية حداثية كانت أوتبعية سياقية، رأسمالية مركزية أو اشتراكية تشاركية، عمرانية تقنية بيئية أو إنسانية بشرية مستدامة، إلى غير ذلك.
وحتى من زاوية الجمعيات، ورغم تزايدها بأعداد هائلة (270
ألف جمعية)، وتعدد مجالاتها ومضاعفة جهودها..، إلا أن معظم المعضلات التي تتصدى
لها، تأبى إلا الاستفحال، وكأن الأمر المجتمعي/الفعل المدني مجرد صيحة في واد وذر
للرماد في العيون، وكثيرا ما يسمع الناس له جعجعة وبهرجة مرصعة بالمشاريع
والشراكات والميزانيات ولا يرون لها على أرض الواقع طحينا فبالأحرى طعاما يستفيد
منه المحتاجون إن لم يكن الجميع؟. وهكذا، فالرشوة.. والمخدرات.. والبطالة..
والهجرة.. والغش المدرسي.. والتفكك الأسري.. والتفاهة الرقمية.. وتضييق حرية
الصحافة.. وحق كل الشعوب في الأمن والسلام.. والتغييرات المناخية واستنزاف الموارد
الطبيعية..، كلها ظواهر مستفحلة رغم وجود العديد غير المعدود ولا المحدود من
الهيئات والمنظمات والجمعيات التي تحاربها؟، مما يعني أن هناك خللا في الأمر، إن
على مستوى المفاهيم والمنطلقات، أو على مستوى المقاربات والمنهجيات، أو على مستوى
الأنساق الحوامل والأنظمة الروافع، أو على مستوى كل ذلك وغيره؟، فكيف يمكن أن نجد
رأس الخيط في كل هذا المكبل من الخيوط ونقطة البداية الصحيحة في الانطلاق ؟، نحو يقظة
راشدة في عمل الإصلاح، وبوصلة سديدة وجديدة في الرؤية والتخطيط والبرمجة والانجاز؟.
لا منطق سالك ومتماسك عند الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه
الله، وإطاره المدني فضاء الفتح للتربية والتنمية، إلا "العلم" والعلم
الحقيقي موضوعا ومنهجا ومجال تطبيق وأعلام اجتهادا وتجديد وإبداع وإمتاع وإقناع،
وفي ديننا يقال: "باب العلم قبل العمل". من هنا، كان الدكتور يحب كنز
العلم ودخر المعرفة الذي هو الكتاب، وكان لا يرى إلا ومعه كتاب، لا يذهب إلى
المدرسة إلا ومعه كتاب، ولا يأتي إلى الجمعية إلا وبحوزته كتاب، وقد أخبرتنا
كريمته الأستاذة خلال التأبين أن دارهم كلها كتب، أينما مدت بصرها منذ صغرها وقعت
على كتاب، وأخبرني المرحوم عند تقاعده، عندما سألته: ماذا تفعل الآن؟، قال:
"أنني متفرغ للكتب والدعوة والمسجد"، وبذلك أعطى قدوة لأبنائه وإخوانه
في حب الكتاب والعلم والمعرفة، الفلسفة والمنطق بحكم التخصص، الفكر والثقافة
الإسلامية بحكم الدعوة والرسالية، وغيرها من حصاد المطابع بحكم هموم الأمة وتحديات
الوطن، وما يلزمان به أصحابهما من بناء الوعي واستمرار الحرص واتقاد اليقظة.
وقد أنجز رحمه
الله أطروحته في الدكتوراه في "الفلسفة وعلم الكلام عند الإمام
الجويني"، إمام الحرمين والمنطق وعلم الكلام وفقه الأصول، أيام كانت المراجع
مجرد مخطوطات، كما بحث في تراث فن "الملحون" ودخل عبره إلى نادي رائده
في المغرب تأليفا ودراسة وثقافة قيمية وشعبية المرحوم الدكتور "عباس
الجراري" وما أنجزه من دورات فكرية سجالية في هذا الموضوع ( ملتقى وزارة
الثقافة الوطني لفن الملحون بسجلماسة)، وكان الدكتور عبد الفتاح، رحمه الله، دائم
المحاضرة الشيقة في مختلف أنشطة وتظاهرات الجمعيات وأسابيعها الثقافية داخل وخارج
الوطن، كان عضوا في رابطة الأدب الإسلامي وعضوا في الاتحاد العالمي للمنظمات
الأهلية في العالم الإسلامي الذي استضاف مؤتمره في البيضاء 2009، ولا ننسى أهم ما
بحث فيه أيضا وهو إرث الفيلسوف والطبيب المغربي المرحوم الدكتور "المهدي بن
عبود" الذي أسس له رفقة إخوانه في "البيضاء" بعد انتقاله إليها من
"الرشيدية" مؤسسة أكاديمية باسمه تدعى: "مؤسسة المهدي بن عبود للبحوث
والدراسات والإعلام" وأخرجوا تراث الفقيد في كتاب نفيس من ثلاثة أجزاء عنوانه
"رصد الخاطر"، أهداني منه رحمه الله نسخة رائعة.
وسيرا على سيرته وخطاه والروح العلمية التي سبق خلقها
وتمثلها والسير عيها في الفضاء، سارت ثلة من أبناء الجمعية وطلائعها كذلك على حب
العلم والمعرفة خاصة في المعرفة الأكاديمية المتخصصة والهادفة والرصينة، فأصبح
منهم من حصل على الإجازة والماستر وحتى الدكتوراه وأصبحوا أساتذة جامعيين، ومنهم
من جمع بين الوظيفة والدراسة واقتطع لها وقتا من عمله بعدما سمح بذلك في الجامعة عبر
التوقيت الميسر، ومنهم من عاد الآن إلى فصول الدراسة وتوفق في اجتياز البكالوريا
أحرار، ولا زال يمخر عباب العلم والمعرفة الأكاديمية حتى بعد سن التقاعد؟. وهكذا
بفضل الله وعزم أبناء الفضاء الأوفياء تكونت لدينا في الفضاء طاقة علمية معتبرة
وفي شتى التخصصات العلمية والدينية، الإنسانية والاجتماعية، في الفلسفة والمنطق
والدراسات والفكر الإسلامي، في القانون والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس..،
ناهيك عن التخصصات العلمية والتقنية في مختلف الجامعات المغربية ومنها جامعات..
فاس.. مكناس.. الرشيدية.. الرباط.. القنيطرة.. نتمنى التوفيق للجميع.
وكل هذه التخصصات عادت بنوع من الثقة والاستقرار على
نفوس أصحابها، رقيهم المعرفي والمهني واستقرارهم الأسري والاجتماعي، تماسكهم
وتكاملهم وتطوعهم الجمعوي والمجتمعي، ولكن، لا زلنا نرى كيف يمكن جمع مجمل هذه
الطاقة العلمية الأكاديمية واستثمارها كقوة ناعمة لتعميق الفعل المدني للجمعية، وتنمية
أبعاده فهما صحيحا أصيلا وممارسة منتجة رصينة، تسير به وبأبنائه ورواده نحو علمية
مدنية تنموية أفضل ما تكون، بما تجمعه بين رافعتين قويتين أس وأساس نهضة كل شعب وكل
جماعة/مؤسسة ألا وهو الجمع بين العلم الأكاديمي والعمل الميداني، بين الجامعة والبحث
العلمي والجمعيات وغيرها من الهيئات والمؤسسات، حتى لا تبقى هذه الأخيرة تؤسس
للوهم التنموي أو تنمية التخلف. وصحيح، أنه كانت هناك جهود ذاتية في كل هذا الرقي
العلمي والمعرفي للإخوان، ولكن الجمعية برسالتها التربوية وتحدياتها الميدانية وبيئتها
الإبداعية تبقى أيضا أكبر حافز على هذا الانجاز العلمي الجماعي، ولأن الأمور
بدوافعها وخواتمها، فنتمنى أن نوفق في تفعيل هذه الطاقة العلمة الناعمة للصالح
العام بشكل أفضل، ورحم الله من ابتدأها وسار على نهجها وحرص على تشجيعها، أخونا
الدكتور عبد الفتاح فهدي، جعلها الله لنا وله صدقة جارية وعلما ينتفع به، وتقبل الله
منا ومنه ومن الجميع صالح الأعمال.