Top Ad

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مواضيع مختارة

الأحد، 19 أكتوبر 2025

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

الدخول المدني 25/.26. مستجدات وتحديات

        في الحقيقة، يأتي الدخول المدني الجديد 25 26/وقد جرت مياه كثيرة تحت جسر العمل المدني/الجمعوي وطفت فوق مختلف مجالاته وبللت منه الوسائل والأهداف والفاعلين والفضاءات..، مما سيجعل مراكبه الصامدة ستمر مضطرة وبشكل غير طبيعي فوق الجسر لا تحته كالمعتاد، خاصة إذا لم تعي بهذه الدينميات الاجتماعية والتحولات العميقة وتأخذها بعين الاعتبار في مراجعة الأهداف والوسائل وتحديد المقاصد والأولويات والمنطلقات والحوامل والمحامل..، ترى، ما هي هذه المستجدات الطارئة والصارخة؟، ما تحدياتها الانشطارية؟، وما المطلوب لتفادي حكاية " المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"؟.

 

         كثيرة هي التغييرات الواقعية والميدانية التي أصبحت تفرض على المجتمع المدني/الجمعوي كغيره من الفاعلين الاصلاحيين، تفرض عليه التغيير والعمل الميداني المتجدد بما يلبس الناس لبوسهم ولبوس عصرهم ويناسب لغتهم والحاجيات والتوجهات والبراديغمات المدنية الجديدة على قولهم : " من لم يتجدد يتبدد"، ومن ذلك:

 

1)   الحراك الشبابي لجيل " Z ":

وهو ظاهرة عالمية تعرفها العديد من الدول ك" نيبال.. مدغشقر.. المغرب.. أمريكا.. اليابان.. كوريا.. الفلبين.. إندونيسيا.. نيجيريا.."، حركة تهتم بالقضايا الاجتماعية المعقدة والمزمنة للدول كالصحة والتعليم والبيئة والتنمية وغيرها من مستلزمات العدالة الاجتماعية كما تمليها الثورة الرقمية.. الحرية والكرامة والمساواة والدمقرطة والتنمية والانصاف..، صحيح هي ظاهرة مرتبطة بالأنترنيت والعالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات المنتشرة..، لكنها تطرح سؤالا عميقا وجوهريا حول التنظيم.. والمعرفة.. والعمل.. والقرابة.. والهوية والقيم.. وحول.. وحول..، وحول الوسائل التقليدية للتأطير في المجتمع، حزب ونقابة.. جمعية وأندية..، كان ندوة أو محاضرة، ورشات تكوينية أو مسابقات ثقافية.. أمسيات فنية أو دوريات رياضية..، هل استنفذت أغراضها وحمولتها التربوية، هل فقدت من بريقها وسحرها وجودتها وقدرتها على التجميع؟، هل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة الحرة هي البديل؟، أم أن منطق التأطير الأول الذي كان يعتمد التكوين والتأهيل والانتماء/الانخراط، لم يعد يقبل غير الحرية والتكوين واللا انتماء أو الانتماء الافتراضي السائل دون التزام ولا قيود ولا واجبات؟، انتماء زئبقي يجعل من صاحبه قد يعطي صوته وموقفه لقضية ما ، لكن من خارج دعاتها وهيئاتها وتبعاتها؟.

 

مسألة أخرى، وهي أن الجيل " Z " كما يبدو قد تحرر  من كل السلطات/التسلطات ومن كل انضباط المؤسسات خاصة تلك التي دأبت على الوصاية على الأخر وعلى إفراغ الأشياء من المعنى وهو مبرر وجودها، والداعي إلى خدمة قضايا الناس وفق حقوقهم وإشراكهم، مما أكسبه يعني هذا الجيل، جرأة غير مسبوقة بقول الحقائق عارية كما هي كتخلف وضعنا الصحي والتعليمي والاصلاحي عامة والدي أصبح يغرد به الجميع اليوم عكس ما كان الكثيرون بالأمس يطبلون لإخفاقاته ومشاريعه الفاشلة وغير العادلة؟، فهل يستطيع من يريد التواصل معه أن يكتسب شيئا من لغته الصريحة التي قد يسميها البعض وقحة وهي مجرد لغة واقعية ونفعية تدعم من يرفع شعار الحكامة وتراعي المصلحة والنتيجة قبل كل شيء، أم أن الانضباط للمؤسسات وتوازناتها  والمراسيم والتعليمات.. ستحول بينه وبين ذلك وبالتالي بين التأطير أو حتى مجرد التواصل لا على التعاون ولا على غيره؟.

 

2)    مشروع إصلاح مدونة الأسرة واحتدام معركة الهوية والقيم:

وهو مشروع يستهدف إصلاح الخلية الأولى في المجتمع التي هي الأسرة، أفرادها، معايير وأهداف تأسيسها، قيم التعايش فيها تحت سقف المودة والرحمة والتضامن والتعاون، أمساك بمعروف أو تسريح بإحسان..، تحديات متعددة تواجه هذه الأسرة المعاصرة، عرفية وتشريعية وكونية مست بعمق هويتها وقيمها، نمطها ونمط العيش فيها، فأصبحت بؤرة العديد من الاختلالات ومرتع العديد من الأمراض الاجتماعية والتحولات الجارفة، عزوف عن الزواج، تفشي الطلاق، تفكك أسري، فقر عاطفي، ضعف الأنس وغياب الحوار، هدر مدرسي وجامعي، اعتداءات جنسية على الأطفال خاصة في الفضاءات والمؤسسات، بطالة وهجرة قسرية..، فما هي مشاريع القيم التي تساهم بها جمعيات المجتمع المدني في تدارك هذا الفقر الممتد والهشاشة المستشرية، وهي تمتد من الأسرة القرابية إلى غيرها من الأسر المؤسساتية في المجتمع، أسرة الوحدة وأسرة المدرسة وغيرها؟. أين الترافع الجاد والجماعي من أجل إخراج المجالس الدستورية الاستشارية الوطنية التي من المفروض أن تؤطر هذا الورش الوطني الاستراتيجي، "المجلس الوطني للأسرة والطفولة" و " المجلس الوطني للشباب والعمل الجمعوي" على أمل ألا تكون كغيرها من المجالس القائمة والتي تمكننا من رؤية وطنية  تشريحية لمختلف الأوضاع في إطار دولي شمولي فتعطينا تقارير موجهة وأرقام منذرة سرعان ما تتحقق نبوءتها، ولكن السياسات العمومية والقطاعية وكأن شعارها معها لا يزال مع الأسف: " شاورها ولا تدير برأيها".

3)    مرور سنتين على طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني الهمجي على غزة/ فلسطين:

سنتين من التدمير العنيف والشامل والابادة الجماعية على غزة، سنتين من التجويع القاتل والتهجير القسري الممنهج، طال الأطفال والنساء وكل المدنيين الغزيين الأبرياء، مما استنكرته كل شعوب العالم ضدا على أنظمتها المتواطئة مع الاستكبار العالمي الغاشم بقيادة أمريكا. والآن، وقد انتصرت المقاومة بفضل الله وجهادها الباسل وتضحيات شعبها والتفافه حولها وكذا أحرار العالم حولها، ولكن المعركة لا تزال مستمرة متقدة لابد لها من "طوفان الوعي"  لاستمرار اتقاد القضية لا اقبارها أو نسيانها أو الفتور عن مناصرتها في السلم كما في الحرب، لابد من نصرة عدالة الشرائع السماوية والمواثيق الكونية وحمل مشاعلها المضيئة الوضاءة، وخاصة تلك التي تستوجب الحرية والكرامة والعدل والانصاف، وترفض الظلم والعدوان والاستعمار والاستيطان والتجويع والتهجير والحصار القسري للإنسان كل الإنسان، وكل هذا من مآسي الفلسطينيين وملفاتهم الحارقة والمستمرة رغم إعلان وقف إطلاق النار؟. فماذا يمكن أن تقدم جمعيات المجتمع المدني لتساهم به بكل فخر في حمل هذه القيم الانسانية السامية والحقوق المشروعة لكل شعب مستضعف بين أنياب الاستبداد والاستكبارالصهيو/أمريكي الظالم؟، إن المجتمع المدني خلال الحرب الضارية قد أرى العالم كله مبادرات ومناشط لا زال الغزيون في أمس الحاجة إليها.. بل وضع إيقاف الحرب أدعى إلى نجاحها أكثر من غيره، ومن دلك: مناشط وفعاليات التعبئة والتحسيس.. مسيرات النصرة وحملات التبرع ومعارض المنتوجات المتجولة.. أساطيل الصمود لكسر الحصار.. فتح المعابر لإدخال المساعدات.. المساهمة في إعادة الإعمار.. الأدب والفن التضامني الإنساني لإبقاء الذاكرة الجماعية حية مقاومة ممانعة مقاطعة غير مطبعة ولا مهرولة ولا مستسلمة ولا متعبة.. الترافع لدى المحاكم الدولية العليا ضد جرائم الحرب لإحقاق الحق وعدم الافلات من العقاب..؟.

 

إن كل هذا الحراك المدني العالمي الزاخر والمتضامن مع القضية، قد تحركت الكثير من المياه الراكدة والآسنة تحته، خاصة لدى العديد من الجهات والمؤسسات المغرضة كأصحاب "تازة قبل غزة "، وكشف الكثير من التغليط والتعتيم والادعاء الصهيو/ أمريكي، مما يفيد أن تسجيل الموقف من طرف المناصرين أو حتى التصويت لصالح القرار الفلسطيني وحده لا يكفي، بل لابد من " طوفان الوعي" و "طوفان المساعدة" وفك الحصار.. وفتح المعابر، ولابد من مزيد من النضال الشامل على حزمة من الحقوق الأساسية على أرض الواقع، حق الأمن، وحق الاستشفاء وحق التعليم وكافة مظاهر الاستقرار والحياة الآدمية الحرة الكريمة. لا تحسبن الجمعيات أن الأمر قد مر وانتهى، فهناك لا يزال المشردون وهناك لا يزال المهجرون وهناك الأسرى والمسجونون، وهناك.. وهناك، لا تبني لقضاياهم إلا بتكتل الجمعيات الحقوقية منها والاجتماعية الخيرية والثقافية الفنية والتنموية البيئية وغيرها. والجمعيات إذ تقوم بهذا أو شيء منه وفوق أنه التزام ديني وواجب وطني، فإنما هي الرابحة ومن عدة أوجه لعل أهمها الاشتغال داخل الموضوع المدني وليس خارجه، ثانيا، الاشتغال على أهم المبادىء الانسانية والتي لا  بناء ولا تنشئة ولا تنمية وطنية أو قومية من دونها، وبالتالي فالجمعيات في هذه القضية ستأخذ بقدر ما تعطي؟.

 

4)    تضييق بعض السلطات على أنشطة وفعاليات بعض الجمعيات:

هناك أمران في السياق، أولا: رغم الهجرة الكبيرة والجماعية للكثير من الفاعلين إلى العالم الافتراضي والهوية الافتراضية، وتغليب النشاط في هذا العالم الحر والملغوم على النشاط الواقعي والميداني، ورغم أن مثل هذا النشاط الرقمي لا نعرف عن مخاليبه شيئا، ولا زال في الغالب لا يفاجئنا إلا بمواقف وحملات وحراكات ومقاطعات لا قبل لنا بها؟. ثانيا: رغم أن الفتور واليأس والقعود قد تسرب إلى الكثير من الفاعلين و منهم حتى النخبة المثقفة المنزوية، فآثرت الصمت حيث وجب الكلام، وانشغلوا بالشأن الخاص تاركين الشأن العام إلى مصيره وتضارباته؟،  هذان موقفان ولا شك لا يخدمان لا مصلحة البلاد ولا مطالب العباد، ورغم هذا، فإن بعض رجال السلطة لا يزالون يستصحبون مواقف التضييق على بعض الجمعيات القانونية وكأنهم في عداء مستمر مع فاعليها المدنيين وهمهم أن يعترضوا طريقهم ويضيقوا عليهم في مساعيهم المشروعة، ولمصلحة، أكيد أنها ليست لا تنموية ولا وطنية؟.

 

لا وصل إيداع ولو عند تجديد الجمعية أو على الأقل تأخيره لأشهر وسنوات أكثر من اللازم مما يضر بمصالح الجمعية ويفوت عليها الكثير من أنشطتها وفعالياتها؟، رفض تقديم المنح المشروعة وعقد الشراكات المتاحة ودون إعطاء أي مبرر لذلك؟، تحويل الإشعار في الأنشطة إلى ترخيص ورفض منح هذا الترخيص مما يهدر جهود وأنشطة الجمعية الكبرى، رفض الترخيص باستعمال بعض القاعات العمومية التي تمنح للآخرين ولا تمنح لك بمراوغات غير قانونية مكشوفة؟، من هنا يطرح السؤال: هل جاء دور التضحية بالفاعل المدني بعدما ضحي بالفاعل السياسي والنقابي أو يكاد، فأصبح وجوده أو عدمه عمليا عند بعض السلطات سواء، والضحية ما نراه اليوم من شيوع التفاهة والسخافة ومن تراجع الوساطة المقنعة والتأطير المجتمعي المجدي إلى مستويات ضعيفة متردية وغير مسبوقة؟. ولا مخرج من كل هذا إلا بالترافع الجماعي من أجل احترام الحقوق الدستورية للمجتمع المدني وإعمال الحكامة الجيدة والمقاربة التشاركية بمضامين وأشكال حقيقية لا صورية لا تغني مع همومنا شيئا، مع تأسيس الفضاءات الدستورية الوطنية للحوار العمومي الذي ولا شك سيقرب بين العقليات والنفسيات ويتيح الاطلاع بوضوح على كل الرؤى والبرامج ووجهات النظر قصد النقد والتداول والاصطفاء والمقاربة المجالية التشاركية التضامنية، وتبقى مصلحة الوطن فوق الجميع وجهود التنمية تستوعب الجميع، فهل نستوعب بعضنا البعض؟.

الحبيب عكي

 


اقرء المزيد

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

جيل (Z) المغربي، من مواطن الكتروني إلى فاعل اجتماعي.

يرتبط مفهوم الجيل في السوسيولوجيا بمجموع الأفراد الذين ولدوا في فترة زمنية معينة تطبعها مميزات وخصائص وتجارب مشتركة، ذاكرة ثقافية واجتماعية، قيمية وأخلاقية..، تختلف عن مثيلاتها عند الأجيال السابقة وان استقت منها، وهي تؤسس في الغالب - حسب كارل مانهايم - على مرجعية تاريخية كبرى  كالحرب (الجيل الصامت المطيع والمنضبط 28 - 45) أو جيل ما بعد الاستقلال صاحب الانفجار الديمغرافي  والمسمى جيل (X) (65 - 80)، او الجيل بعده المسمى بالجيل المعطوب (y) من قلة الفرص في الثمانينات والتسعينات (81 - 96)) ويسمى أيضا جيل الألفية، أو جيل الثورة التكنو - معلوماتية المسمى بجيل (Z) أو جيل الأنترنيت والمولود ما بين (97 - 12)، وقد ترتبط تسمية الجيل أيضا بكوارث بيئية وأوبئة كالمجاعة(عام البون.. عام الجراد) و الفياضان (65) والزلزال (أكادير 61.. الحوز 23)...، وإن كان جيل (Z) المغربي في حراكه الاجتماعي الحالي في الحقيقة خليطا من كل الأجيال خاصة الشباب والقاصرين، وكأن الناس كلها مخنوقة واحتاجت للتنفيس والتفريغ الجماعي في الشارع، وقد فعلت ذلك بكل حرية ومسؤولية وسلمية وشعبية، لولا ما عكر الأمر من العنف المتبادل بين قوات الأمن والمحتجين كاد يخرج بالأمور عن مقاصدها الاحتجاجية ومطالبها الاجتماعية وعن سلميتها إلى المواجهة والتخريب لولا أن الله بشكل عام قد سلم.

 

            لكل جيل أسلوبه في الحياة وذوقه الخاص في الفن والأكل واللباس والتعبير.. وقيم ومعايير خاصة في العلاقات بين الجنسين او تكوين أسرة بخيارات معينة، له أيضا لغة خاصة قد يكون فيها نطقا وكتابة كثير من العنف والكلام الساقط كسب الدين والملة والوالدين وفحش ما تحت الحزام الشائع والعادي بين الشباب حتى عند صنف من الفتيات وفي الجامعات؟. قد يكون هذا اشكال تربية وتنشئة اجتماعية وظروف معيشية وتمرد وصراع بين الأجيال، لكن الإشكال الأكبر عند الجيل بشكل عام هو أنه تكون له يوتوبيا (أحلام مثالية عن الواقع المأمول) لا يتحقق كثير منها في الواقع المعاش مما يجعله يصاب بالإحباط ويسقط يأسا وضعفا وعنادا في متاهات الأيديولوجيا ( حوامل الأجرأة والتنزيل ومعيقاتها من انحرافات وتطرفات..)، ومن سوء حظه، لا يحقق فيها غير التراكم الخانق وانسداد الأفق ولا يعيد بسببها حسب -Paul Willis  - إلا إعادة إنتاج نفسه لثلاثة عقود أو أربعة، ولا تجد أزمته الخانقة لها حلا إلا بدينامية اجتماعية يكون فيها كثير من الانفجار يتولد عنه تغيير لازم ومختلف عما هو سائد، يعني بقيم ومعايير جديدة تحكم العلاقات والتفاعلات بين الأفراد أنفسهم وبين الأفراد والسلطة خاصة فيما يخص توزيع السلطة ذاتها والثروة والقيم ومعايير الوطن والمواطنة والسلوك المدني سرعان ما تصبح هي العقد الاجتماعي الجديد أو البيعة والمبايعة التي تحكم بموجبها المخططات والسياسات.

 

            والجيل (Z) المغربي، لا يخرج عن هذه المنظومة النسقية والبنيوية للأجيال، بدء من هويته وكينونته وماهيته التي تميزه عن غيره ويجد فيها روحه وأفكاره، قيمه ومعتقداته، مهاراته توجهاته واختياراته..، إنها  اليوم - كما يجمع الباحثون - هوية رقمية مبنية على الأنترنيت والتطبيقات والعالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي..، بما تعنيه وتوفره من حرية شبه مطلقة وكونية عابرة للقارات جعلت العالم قرية صغيرة، وكل أشكال المعلومات فيه متدفقة ومتطايرة ومتوفرة للجميع بمجرد نقرة، حسابات بأسماء وصور حقيقية أو مستعارة، فرص التعبير بالصوت والصورة والتدوين وصناعة المحتوى، سفر وهجرة بلا رجوع إلى ملايين المواقع والصفحات والصالونات المخملية بكل ما خبث وغث أو ما لذ وطاب من أطباق وموائد الخوض الجريء في كل المباحات وكل الممنوعات، في الدين في السياسة في الجنس الاباحي في المستور والمفضوح في المقدس والمدنس وبمعايير خاصة يضعها المتواصلون أنفسهم لا غيرهم من السلطات والحكومات، الجد موجود واللعب موجود، والبيع والشراء موجود والحب والكره وكل شيء حتى صناعة الحدث والشهرة والفضائح (Buzz) ولو بروتيني اليومي والنصب والاحتيال والشبكات والعصابات، ليبقى السؤال هل إلى هذا الحد قسى الواقع على الناس فهربوا منه وقد قسى؟.

 

            السؤال أيضا، هل نحن في حاجة إلى العمل في عقبات الواقع أم في متاهات المواقع؟. هل نحن في حاجة إلى الفاعلين الاجتماعيين الواضحين أم إلى المتنكرين الافتراضيين المتخفين وراء الفأرة والشاشة والسكرين والسكرول؟، ما ينبغي أن نعلمه، أن العالم الافتراضي هو الواقع بل هو أسرع منه وأقدر منه على الصرع، العالم الافتراضي يصنع الواقع الميداني والخرائط العقائدية والمذهبية ويؤثر فيها ويؤطرها ويغيرها في أي اتجاه يحظى عنده بالطوندونس، علاقات وتفاعلات.. طباع ونفسيات.. تجارة وتشغيل.. عقود وقوانين.. ترافع وقضايا.. برامج وتكوين.. ألعاب وترفيه.. مجانين ومشاهير.. تفاهة وأزمات، وليس بينه وبين الواقع لا جدار برلين ولا أسوار الفصل العنصري العدائية، وها هو جيل الهوية الرقمية (Z) قد بدأ خروجه من المواقع إلى الواقع بمجرد "هشتاق" في مواقع التواصل الاجتماعي، وسرعان ما اكتسحت شرارته كل العالم وأخرجت شبابه إلى شوارع العواصم وغير العواصم تطيح بالحكومات والأنظمة في "لبنان" و"نيبال" وربما "مدغشقر"..، وفي العديد من الدول كاليابان وإندونيسيا وكوريا والفلبين وأمريكا ونيجيريا..، هو جيل متعلم مبادر سعيد بإنجازاته الافتراضية وحياته الفردانية، ويتبنى قضايا العهد المعقدة والمزمنة كالحرية والتنمية والمساواة والصحة والتعليم والبيئة والعدالة الاجتماعية..؟. وقبله موجات الربيع العربي وحملات المقاطعة التي ترتعد منها اليوم الشركات والأنظمة وتستجيب مضطرة لمطالب وضغوطات منظميها حتى قبل أن ينطقوا بها، إنهم ينصرون بالرعب مسيرة عقود وعقود، فهل يصدق من قال أن الجيل (Z) ثورة رقمية جديدة ستغزو كل العالم على غرار سابقها من الثورات الزراعية والثقافية والصناعية؟.

            ولكن، يبقى التنادي إلى حملات التظاهر السلمي والتضامن والتغيير الاجتماعي مهما كانت صادقة ومفيدة فهي  قد تموت في مهدها ما لم يلامس صداها وجدان الفاعل الاجتماعي أي الإنسان على أرض الواقع، لأن الافتراضية/الالكترونية قد تكون كما تذهب إلى ذلك الماركسية بمجرد امتلاك الأدوات المادية... هاتف ذكي و شبكة واي فاي.. أو حاسوب محمول أو لوحة إلكترونية، ومن يملك أكثر وأجود يملك الولوج والاستفادة والتأثير والتعاطف والربح وحسم المعركة بسرعة أي معركة ولو كانت نحو الهاوية، بينما تبقى الفاعلية الاجتماعية كما يذهب إلى ذلك "ماكس فيبر" تحتاج إلى القيم والأفكار والمعتقدات والاختيارات العقلانية أي إلى الإنسان قبل كل شيء، الإنسان المميز والمسؤول الواقعي والوطني المخلص، صاحب القيم والأخلاق قبل الوسائل المادية والأنظمة والأنساق التي قد لا تميز بين الهدم والبناء وبين الحرق والاطفاء أو بين الإصلاح والافساد الذي لابد له من الإنسان صاحب الهوية والمرجعية والوطن والتوطين الحقوقي والديمقراطي البناء، يؤصل ويجدد نحو الأفضل بشكل أفضل بعيدا عن موجات العولمة القيمية والثقافية وعن ما يمكن أن يكون من مآسي الثورة الرقمية العالمية المحتملة والتي تمحو كل الحدود والمسافات وتتجاوز كل الخصوصيات والهويات والمرجعيات والانتماءات، شعارها ماكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة" وكوجيطو "أنا مدمن إبحار، إدن أنا موجود"؟.

 

            وهذ لا يعني في شيء أن  الجيل (Z) المغربي رغم هويته الالكترونية المنفتحة والكونية مطعون في فاعليته الاجتماعية، فقد حرك كل الفاعلين الاجتماعيين الآخرين بقوة وفي وقت قياسي تجاوز كل الوسائل التقليدية للفعل الاجتماعي، أيضا بما أبدعه واعتمده من وسائل افتراضية بسيطة والتي مكنته من حشد الشارع وتجييشه في نضالات اجتماعية تقدمت به على غيره من الفاعلين عقودا وعقودا، وهي مرجحة أيضا أن تتقدم بالمغرب مثل ذلك وأكثر إذا أحسن الإنصات والتعامل مع رسائلها ومطالبها  ولم يفرغها من المعنى أو يشوه لها في المبنى، الجيل أيضا لديه من الجرأة على قول الحقيقة عارية كما هي، وعلى رفض ما يتماهى معه غيره – خوفا أو مصلحة – من القرارات المجحفة والسياسات المنحازة والاختيارات والتوجهات المفروضة لمصلحة غير شعبية أو إكراه سياسوي كالتطبيع والملاعب نموذجا والتي لا يرى فيها جيلنا الواقعي لا مصلحة للبلاد ولا خدمة للعباد، لذلك رفضها وصرخ في حراكه الشعبي في وجه ناحتيها: "فلسطين أمانة.. والتطبيع خيانة".. "الصحة أولا.. ما بغيناش كاس العالم".. " الفوسفاط وزوج بحورا.. وعايشين عيشة مقهورا "، لكن الإشكال يكمن دوما في الأجرأة والتنزيل وما يتطلبه ذلك من رؤية سياسية وبرامج إصلاحية قوامها التنمية والديمقراطية.. العدالة الاجتماعية والمقاربة التشاركية..، فأي رؤية للجيل وأية مقترحات غير الرفض  والصراخ على أهمية ذلك في زمن التهميش والاقصاء وسياسة المصالح والغنائم؟.

 

هل يمكن لكل هذا أن يحقق أي نتيجة مرجوة ومنصفة وقوالبنا السياسية وبرامجنا الاجتماعية سواء على مستوى الفرد والمجتمع أو حتى الدولة والمؤسسات، لاتزال مخضبة بنظام رأسمالي متوحش تطرح فيه كل أسئلة الصراع والاضطرابات الاجتماعية من حرية التملك وقيم الفردانية وشيوع الفقر والبطالة بدل العدل والمساواة والتضامن والانصاف؟.. وسياسة نيوليبرالية جشعة تعتمد اقتصاد السوق والاستهلاك بدل التصنيع والانتاج.. الفردانية الاجتماعية.. تعليمات البنك الدولي.. وما يقضي به من ضرورة انكفاء دور الدولة لصالح الخوصصة والقطاع الخاص بما تعنيه من سياسة الريع والفرصة والغنيمة.. كذلك عولمة قيمية وثقافية فاسدة ومستبدة ولا تناسب طبيعة أوطاننا ولا قيمها وهمومها، فهل يستطيع أي جيل بمفرده أن يفرض مطالبه بمجرد التظاهرات على حدتها وتضحياتها وخسائرها أم سيضطر إلى التحالف والترافع والتدافع مع الآخرين، وكيف له أن يجنب ذلك كله بعض القوالب الإدارية المكلسة وبعض الأحزاب الانتهازية وبعض المؤسسات المفرغة لكل شيء من المعنى والمبنى.. الانتقال الديمقراطي.. دستور 2011 .. النموذج التنموي الجديد.. والنماذج القديمة والجديدة في الصحة والتعليم والتشغيل والحقوق والحريات كثيرة.

 

أين الفضاء الدستوري للحوار العمومي وقد كان منتظرا منذ 2011؟، أين المجلس الوطني للشباب والعمل الجمعوي وهمومهما كل يوم تتفاقم؟، المجلس الاستشاري الأعلى للطفولة والأسرة ودوره المأمول في استقرار الأسرة وتنشئة الأجيال؟، ما جدوى العديد من المجالس الوطنية الأخرى والهموم التي قد تكلفت بمعالجتها تتفاقم حتى أصبح وجودها وعدمها عند الناس سواء أو يكاد(...)؟. من أفرغ مؤسسات التنمية الاجتماعية المدنية وعرقل القيام بأنشطتها وبأدوارها الاجتماعية والسياسية؟.. لابد من شيء من الصدق والمصداقية.. والضمير والمسؤولية.. والمواطنة والوطنية.. وغيرها من قيم الصلاح والإصلاح، وكفى لهدر الزمن التنموي والديمقراطي بين الأجيال، فهذا جيل (Z) يكرر اليوم ندائه ويجدد مطالبه بأسلوبه الخاص، وهي في الحقيقة نفس مطالب كل الأجيال قبله وبعده، لا نقول كان يتعامل معها دائما بسياسة التجاهل والتناور والافراغ من المعنى والمبنى، هناك جهود ومكتسبات ولكن أيضا هناك انحراف وخصاص وتفاوتات، وعندما يصل الأمر إلى حرمان جيل بأكمله بل أجيال متعاقبة رغم ما أقدمت عليه من تضحيات تحريك الشارع والمغامرة باستقرار الوطن وأمن المواطن، فإنه غير مقبول.. غير مقبول، وينبغي أن يصبح تدارك الأمر غاية الجميع ومبرر كل وجود وكل موجود، وهو شيء ممكن؟.

الحبيب عكي


اقرء المزيد

الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

بين القانون الداخلي والحالة التربوية للتلميذ.

        كثيرة هي الأسس النظرية التي تحاول التأسيس لواقع مدرسة مغربية ذات قيمة إنتاجية وجودة تربوية وتراكم معرفي وقيمي مضطرد وبناء، بما يستجيب للأسئلة التربوية والاجتماعية التي يحفل بها علم النفس التربوي وسوسيولوجيا التربية/المدرسة من قبيل: هل المدرسة المغربية مدمجة أم طاردة؟، هل فيها عدالة اجتماعية أم تمايز فئوي ومجالي؟، كيف تخلق ما نرفعه من شعار المساواة الاجتماعية و الجودة وتكافؤ الفرص في مجتمع يفتقدهما أصلا؟، لماذا المدرسة تعيد إنتاج كل الظواهر المشينة واللاتربوية التي تعرفها؟، هل المداخل الإصلاحية لهذه المعضلات تكمن في السياسات والميزانيات والدعائم اللوجستيكية، أم في المعيقات الذاتية والمجريات الفصلية والانحرافات غير المنتظرة في الطريق كما تذهب إلى ذلك المدرسة الفينومنلوجية ؟.

 

            على أهمية السياسات وما توفره من ترشيد الاختيارات وأهمية الميزانيات وما توفره من الإمكانيات، فإن مثلثات الأعطاب ومربعات المطبات وصواريخ الفشل قد تكمن في انحرافات أخرى غير متوقعة ولكنها موجودة   كما يذهب إلى ذلك السوسيولوجي"روبرت مرتون" صاحب العوامل المنحرفة (effets pervers)، وهي عوامل تسبب في فشل كل "قانون إطار" وزيغ كل "خارطة طريق" وعجز "تدابير أولية" أو إجراءات ثانوية، ويضرب لذلك مثالين أساسيين هما: 1) المعيقات الذاتية: إذ رغم أن المدرسة معممة وتمنح نفس الفرص للجميع وتفتح نفس الشعب أمام الجميع وهي بذلك عادلة وبريئة، لكن التلاميذ وأسرهم لهم اختياراتهم العقلانية وحساباتهم الاجتماعية وهي من ترسم اجتهاداتهم الذاتية واختياراتهم المتاحة وما يقدمون عليه من اجتهاد أو تكاسل، وكلما اختلفت الاجتهادات، طبعا، اختلفت النتائج والفرص والمسارات..، وبهذه الاجتهادات الذاتية يمكن أن نفسر مثلا وجود تلاميذ من أسر فقيرة استطاعوا أن يلجوا المدارس العليا ويتخرجوا منها أطباء ومهندسين وتغير بذلك واقعهم ومواقعهم.

 

            وأيضا هناك: 2) المعيقات الفصلية: أي ما يقع داخل الفصل، أي ظروف التمدرس وفضاءاته وأجواؤه من مثل: ماذا ينتظر الأستاذ/المؤسسة/الأسرة/المجتمع من التلميذ؟، كيف يتمثل هذا التلميذ مادة دراسية أو أستاذها؟، في أي جو حقوقي وقانوني أي تربوي محترم تنسج علاقات الأستاذ بالتلميذ.. بالزملاء.. بالإدارة.. بالأسرة.. بالمحيط.. بالمؤسسة.. بالتكوين..؟، كل هذا يؤثر ولا شك على التحصيل الدراسي  وقبلها وبعدها على النجاح بشكل عام. فأستاذ يحكم على تلميذ فقير أنه لا يستطيع أو على تلميذ أنه مشاغب غير منضبط، سيبقى في نظره كذلك ولن يكافئه بالرضا على أي شيء مهما فعل؟، وتلميذ يحكم على مادة أنها صعبة أو على أستاذها أنه في نظره معقد.. غير كفؤ.. غير عادل..، فلن تنسج بينهما علاقة الود ولا حبال التواصل الإنساني فبالأحرى مسالك التواصل التربوي وهو ضروري في كل عمليات التعليم والتعلم؟.

 

            هذا الذي يقع داخل الفصل/المؤسسة/المحيط..، والذي كثيرا ما تتحاشاه برامج الإصلاح، التي كثيرا ما حلا لها التجول خارج الفصل في بناء الأسوار وصباغة الأقسام ورسم الجداريات وتقسيم الملاعب وبستنة الحدائق..، على أهمية كل ذلك، لكنها لماذا لا تجرأ على الدخول إلى الأقسام مطبخ العمليات الحقيقية وفرنها الحارق، وما قد يقع داخلها من حروب طاحنة لا تبقي أي شيء لأي شيء في أي شيء؟. لهذا جاء القانون الداخلي للمؤسسة يعترف بشيء اسمه داحل القسم، يدخل إليه، يرصد المجريات، يعترف بالتجاوزات ويحاول معالجة المشين من ظواهر لا تربوية تعود بالسلب على العملية التعليمية/التعلمية وما يرجى منها من نجاح علمي ومعرفي، قيمي وأخلاقي، ولكن، وسط أجواء فصلية تعمل على هدمها وعرقلتها ومن ذلك: اكتظاظ.. شغب.. عنف لفظي وجسدي متبادل.. معرض الأزياء.. تحرش.. تنمر.. سباب.. عراك.. غش متنوع.. تدخين خفي وظاهر.. ترويج مخدرات..، غياب.. تأخر.. إهمال الواجب.. عدم كتابة الدرس.. عدم المراجعة.. ضعف المشاركة..؟، لهذا جاء القانون الداخلي للمؤسسة وانضاف إليه العقد الديداكتيكي للقسم (chartes de la classe) بين الأستاذ والتلاميذ، وهما إن لم يطلهما النسيان بالدوام، مرجعان أساسيان للعلاقة بين التلميذ والمؤسسة وبين التلميذ والأستاذ وبين التلميذ والتلميذ..، وهما في البداية والنهاية المرجع الأساسي والملجأ الأخير والحاسم عند وقوع أية مشكلة بين كل الأطراف.

 

            اطلعت على بعض القوانين الداخلية للمؤسسة، ربما عممها أصحابها للتعميم والتحسيس وكل غاية مفيدة، فوجدت فيها جملة من الممنوعات والواجبات لم تكد تبقي فيها للحقوق والمباحات أي شيء:

1-    ممنوع القبعات

2-    ممنوع السراويل الممزقة

3-    ممنوع السراويل القصيرة

4-    ممنوع الهاتف النقال

5-    ممنوع الحلاقة القزعية

6-    ممنوع الماكياج والوشم

7-    ممنوع الأدوات الحادة

8-    ممنوع الأشياء النفيسة

9-    ممنوع القلائد والأقراط والأساور للذكور

10-  ممنوع الأكل في الأقسام ورمي الأزبـال

11-  ممنوع الكتابة على الجدران

12-  ممنوع المطـاردة في الساحة

13-  ممنوع دخول الدراجات

وطبعا، لا يمكن للمرء إلا أن يكون مصدوما اتجاه هذه القائمة من الممنوعات التي لا تكاد تبقي للمباحات شيئا، وبالتالي نتساءل: هل فعلا أصبح التلميذ على هذه الشاكلة؟، أو على الأصح كيف أصبح هكذا؟، وهي حالات موجودة على كل حال وإن كانت غير عامة والحمد لله.



            السؤال الحارق أيضا، هل يمكن تدريس تلميذ/ة على هذه الشاكلة؟، وهل المدرسة مسؤولة عن الحالة السلوكية للتلميذ/ة؟، كيف يمكن تقويم سلوك التلميذ/ة والأسرة/الإعلام/المجتمع غير مقوم؟، إن القانون الداخلي في الحقيقة يطرح سؤالا جوهريا أعمق وهو سؤال الانضباط (
la discipline) في المنظومة التربوية، أي سؤال التربية بين الحقوق والواجبات أو بين الحرية الفردية والانضباط الجماعي خاصة إذا شابه شيء من التسلط التربوي وعدم مواكبة التغيرات المفاهيمية والقيمية بين الأجيال؟. سؤال قديم جديد ويتجدد خاصة في هذا العصر الذي تسود فيه الحرية بكل المفاهيم وتحميها القوانين الدولية، إن الانضباط كان على الدوام حجر الزاوية وركن الأركان في العملية التعليمية التعلمية، بما يحققه من بيئة تعليمية آمنة، تساعد الأستاذ على ضبط القسم دون توتر ولا عنف، والتلميذ على التركيز في التعلمات دون خوف أو انحراف، تنمي القيم والمسؤولية بما سيشيعهما أيضا في الأسرة والمجتمع، محاربة العلاقات المتوترة والمعاملات السلبية والمسمومة مثل التنمر والتسلط والعنف المتبادل..

 

            لذا يبقى السؤال أيضا: إذا كان الانضباط (la discipline) في المدرسة وفي الحياة العامة مهما بهذه الدرجة وأساسيا في كل تربية وتكوين وتأهيل وتوظيف.. ومسؤولية، فلماذا لا زال ضعيفا عندنا ولماذا نتعامل معه وكأنه مجرد حبر على ورق و ورقة للتعليق على الجدران على أعين الناس كما يقال؟، لماذا نجد بعض المدارس وكأنها لا تنتج غير التسيب والفوضى أكثر من العلم والمعرفة والانضباط السلوكي والأخلاقي؟، خاصة في بعض مدارس الأحواض الشعبية الفقيرة التي لا وجه للمقارنة بين رهطها ورهط مدارس الأحياء الغنية أو حتى أشتات بعض المجموعات القروية النائية، وإن كان لكل منها اضطرابه وانفلاته؟. لا بديل عن الانضباط والاحترام المتبادل غير التسيب والفوضى والانحراف وسوء المعاملة..، لا بديل غير ما نحن بعيدون عنه من البيداغوجيات التربوية القائمة على التعلم الفردي/الذاتي (كتأهيل المرشح لرخصة السياقة) والتعلم التعاوني (انضباط جماعي وتلقائي يستجيب لشرط المنافسة بين الجماعات) أو حتى التعلم الديمقراطي (يساهم فيه التلاميذ في صنع القرار واتخاذ الأحكام).

 

ولذا، هل لنا في تفعيل هذه الدعامة التربوية التي تسمى الانضباط (la discipline) حتى لا ينضاف ضعفها إلى ضعف المنظومة فتزداد جعجعة الأشياء ولا طحين، في زمن يتبنى فيه الجميع شعارات الجودة والحكامة والعمل بالنتائج الإيجابية المستهدفة والمخطط لها، من أجل ذلك يمكننا التساؤل مع المتسائلين:

ما المقصود من الانضباط، سلوك مظهري أم طبع جوهري؟. هل الانضباط يخص التلميذ/ة وحده أم يهم الجميع كل من موقعه؟. ما مرجعية هذا الانضباط، قيم حضارية خالدة أم قوانين مدرسية عابرة وعادات وأمزجة شخصية فاسدة؟. مدى مشاركة التلاميذ والأسر في بلورة هذا القانون ومدى معرفتهم به أصلا؟. مدى موازنته بين الحق والواجب وبين الحرية والانضباط وبين الشخصي والجماعي؟. مدى مراعاة الديناميات الاجتماعية والتطورات التكنولوجية وخصوصيات الأجيــــــــال؟. أي مجلس تأديبي مسؤول عن الفصل في نزاعاته وهل من تمثيلية حقوقية للتلاميذ فيه؟. ما مدى حزم هذا المجلس في اتخاد ما يفيد من قراراته العادلة وأي صلاحيات له في ذلك؟. أي سياسة تواصلية إعلامية تحسيسية للمؤسسة حول قانونها مع كل جهة وفئة يهمها الأمر؟. ما علاقته بالاختيارات والتوجهات التربوي العامة من تعميم التمدرس وجودة التعلمات وفرص وعدالة اجتماعية..؟

 

إن الانضباط دعامة تربوية أساسية، وهو لا يعني في شيء لا هيمنة الأستاذ على القسم وتسلطه على التلاميذ، ولا نزوعه إلى الطرق التقليدية العقيمة في التعليم، بل هو تنظيم العلاقات والعمليات والتدخلات..، كل في وقتها وبحجمها وطرفها وآدابها..، والتنظيم أساس النجاح، وسيظل كذلك كلما كانت هذه الدعامة التربوية (الانضباط) شمولية وسلوكا جماعيا ولها الجرأة على تنظيم جوانب أخرى أساسية ومؤثرة في عمق العملية التربوية : كمحاربة الاكتظاظ.. أو المؤسسات الثكنات بالآلاف من التلاميذ متفاوتي الأعمار.. أو ضعف المختبرات وإزالة التفويج من المواد التجريبية.. أو تساهل طرف من الأطراف في تفعيله، كأستاذ لا قدرة له على الرقي إلى روح القانون وتقدير الحالات، أو تلميذ لا قانون عنده إلا قانون الشارع، أو إداري يستثقل التدخل في الحالات، أو ولي أمر يقول أنا من اشتريت هذا الذي تشتكون منه لابنتي..؟، إننا في حاجة إلى تدريس مادة الآداب وفن المعاملة وروح القانون وحرمة المؤسسة والمسؤولية والحقوق والواجبات.. قبل أن يدرسها لنا "التجنيد الإجباري" ومخيمات المهاجرين السريين ولاة حين مناص، إن المعرفة إذا فاتتنا يمكن تداركها وبالعديد من الطرق والوسائل وفي العديد من الأماكن، لكن الآداب والأخلاق إذا أخطأتنا أو اختلفنا حولها فلا علم ولا آداب ولا عمل ولا مسؤولية ولا شيء مما يبني الهوية والمرجعية والقيم..، قيم الحرية والمسؤولية والوطن والمواطن؟.

الحبيب عكي


اقرء المزيد

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

http://akkioasisdesarticles.blogspot.com/

سنة أولى بعد رحيل الدكتور عبد الفتاح فهدي

    

14- رجل الإبداع في فضاء الإمتاع

        في مثل هذا اليوم، الخميس 22 غشت 2024، رحل عنا أخونا الدكتور عبد الفتاح فهدي، إلى جوار ربه الحنان المنان، نسأل الله لنا وله الرحمة والمغفرة الواسعة وأن يتقبله عنده بقبول حسن، ولا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده، فقد كان رحيله عند أبنائه وإخوته ومؤسساته ومحبيه فقدا عظيما وصدمة قوية وألما اعتصر قلوبنا وخبل أرواحنا، ولكن نرضى بقضاء الله ونؤمن بقدره وإن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وكل شيء عنده بقضاء وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام، حقيقة جسدها الله في قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" آل عمران/185.

 

وأنا أحيي هذه الذكرى الأليمة وإن بهذه المقالة اليتيمة، أذكر نفسي وإخوتي أن الغاية منها ومما سبق وأن كتبناه من مقالات حول المرحوم (13 مقالة تحت عنوان: علمنا الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله)، هو مجرد التذكير ببعض خصاله الحميدة وإنجازاته النيرة في التربية والدعوة والثقافة والعمل المدني..، قصد الاعتبار والانتفاع بها عبر فضاءاته الجمعوية ولما لا كما قال رئيس حركة التوحيد والإصلاح الدكتور "أوس رمال" في حفل "الوفاء" الذي نظمته الحركة احتفاء ووفاء لمن قضوا من أبنائها القادة: تأسيس مؤسسة مدنية باسم "الإخاء والوفاء" تكون مدرسة لحفظ خصالهم وتجاربهم والتدريب عليها ونشرها وتطويرها وهم الذين عافسوا الواقع العنيد وكابدوه حتى استقامت لهم وبصموه وبصمهم بها وهي لا تزال من المداخل والحوامل والروافع والدعامات الأساسية والمعاصرة لما نهتم به في المجتمع من شؤون التربية والدعوة وسؤال النهضة والإصلاح.

 

لقد كان الدكتور عبد الفتاح فهدي، رحمه الله رجلا متعدد الخصال رصين المبادئ ومتقد المواهب، وكل هذا قد جسده في الجمعية التي أسسها هو وإخوانه في فاتح يوليوز 1987 في مدينة الرشيدية بالجنوب الشرقي للمملكة "فضاء الفتح للتربية والتنمية" حاليا، وهي لا تزال جمعية حية وفاعلة وممتدة عبر التراب الوطني تسير على هذه المبادئ تعمل بها وتنشرها بل وتجدد فيها حسب المستجدات والمتطلبات والتراكمات والبصمات..، وقد سبق وأن أشرنا إلى هذه الخصال كعناوين لما سبق وأن كتبناه من مقالات عما تعلمناه من الدكتور عبد الفتاح رحمه الله ومن مدرسة الفضاء عموما ونذكر من ذلك:

1-     في سياق الدواعي.

2-     معنى المواطنة الصالحة، التزام وعطاء.

3-     معنى الانخراط في مشروع الإصلاح.

4-     معنى شعار الجمعية: "تنمية الإنسان أولا".

5-     معنى التضامن مع قضايا الأمة.

6-     رفض الشطط في استعمال السلطة.

 

7-     معنى الأخوة والمحبة والألفة والمودة.

8-     معنى العمل الجماعي والانجاز بروح الفريق.

9-     معنى الانفتاح والشراكة والتعاون والتضامن.

10-سباعيات وتسميات، الدواعي والمسارات.

11-العمل الجمعوي بين إدارة التنمية وتنمية الإدارة

12-العمل المدني بين جمعية الحل وجمعية المشكل.

13-معنى الشغف بطلب العلم وحب المعرفة.

 

                   خصال، فوق ما يربط بينها من وضوح الهوية والمرجعية والرؤية الواقعية والغيرة الوطنية والرسالة الإصلاحية والممارسة الميدانية..، فهناك خاصية مهمة جدا وهي خاصية الإبداع، وما أحوجنا إلى الإبداع على قول "ابن خلدون" رائد علم الاجتماع: " التغيير قاعدة الحياة"، وما ساءت أحوال المسلمين واستفحل تخلفهم في العديد من المجالات إلا لأنهم استأنسوا بالجمود واستمرئوا الاستيراد والتقليد بعيدا عن عناء أصالة الاجتهاد وواقعية التجديد وحداثة الإبداع، وهكذا فقد أبدع المرحوم وإخوانه وفضاؤهم وحساسيتهم الحركية وفعلهم المدني على العموم في العديد من المجالات ومنها التي كانوا هم أول من دشنوها فكان لهم بذلك سبق إضافة الإبداع على الإبداع، وقد تجلى ذلك:

1-  عندما تبنوا العمل الجمعوي العلني في زمن السرية والانغلاق.

2-  عندما اختاروا لفضائهم الجمعوي بعدا إقليميا ثم جهويا فوطنيا في زمن الجمعيات المحلية.

3-  عندما كانوا يغيرون أهداف وأسماء جمعيتهم كل 7 سنوات حسب المستجدات والمتطلبات.

4-  عندما انتقلوا إلى العمل المتخصص في الطفولة والشباب في زمن العمل الشمولي الذي يفعل كل شيء..

5-  عندما اعتمدوا العمل المشترك بين الرجال والنساء في وقت لا تزال فيه المرأة مغيبة عن الجمعيات.

6-  عندما نظموا معارض الكتاب المتجول وأدخلوا عبره آلاف الكتب إلى المنطقة فكوا بها عزلتها الثقافية.

7-  عندما كانوا يعتمدون التدبير الجماعي والتفويض الوظيفي في زمن الاستفراد وقيادة: "ما أريكم إلا ما أرى".

8-  عندما اهتموا بقضايا الوطن والأمة ونظموا لها أسابيع ثقافية حافلة بالمحاضرات والأمسيات والدوريات.

9-  عندما اكتروا لهم مقرا خاصا يسع أنشطتهم، ولم يكتفوا بمن دار الشباب عليهم بسويعات في قاعاتها ..

 

10-   عندما لم ينتظروا لهم منصب خطابة ووعظ في المسجد فصنعوا لهم داخل مقرهم كرسي علم بكل شيء لا زال يشهد بدرس الثلاثاء للدكتور عبد الفتاح، وما حظي به من إقبال كثيف ومستمر من طرف مختلف الفئات.

11-   عندما أسسوا لهم أندية للمطالعة والفكر والحوار ولجنا للرياضة والعمل الاجتماعي، بل أندية فنية للمسرح والإنشاد وقد بنوا لها منصة داخل المقر في وقت كانت فيه مثل هذه الأنشطة غريبة وبدعة.

12-   عندما أنجزوا عقودا من المخيمات الناجحة في فضاءات رسمية زمن المخيمات السرية المتوحشة.

13-   عندما أبدعوا في إعداد المشاريع وعقد شراكات بشأنها مع قطاعات وزارية في زمن الاستنكاف المزعوم.

14-   عندما نظموا تداريب مؤطري الطفولة في وقت كان حظ المنطقة منها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

15-   عندما لا زالت فروعهم تبدع في أنشطتها المتميزة من مهرجانات وملتقيات ورياض أطفال وكفالة يتيم..

16-   عندما انخرط المرحوم عبد الفتاح خلال كل هذا في ملتقى سجلماسة لفن الملحون منذ تأسيسه وكان عضوا فاعلا في مختلف دوراته بعروضه ومداخلاته القيمة، عملا على البحث في التراث ومغربة التربية والثقافة، وهي أهداف طالما تسطرها الجمعيات ولكن لا تنجز فيها شيئا.

 

            ويستمر الفضاء، ويستمر معه ورش التدافع والترافع، يستمر فيه الإبداع والإقناع والإمتاع بروح الفريق والعمل الجماعي، ولا نخشى بإذن الله على فضائنا وروح الأجيال المؤسسة والأجيال اللاحقة فيه تتفاعل ويلهم بعضها بعضا ويساعد بعضها بعضا كل من مكانه وبإمكانه، والجميع كل يوم يضحون من أجل حمل الأمانة واستمرار الرسالة أملا في نيل رضا الله تعالى وشرف خدمة الصالح العام للوطن والأمة، فحفظ الله الأجيال العاملة وهي تحمل المشعل ورحم القاضون منا إلى رحمة ربهم وعفوه وعطفه ومنه، وعلى رأسهم الرئيس المؤسس أخونا الدكتور عبد الفتاح فهدي، وأملنا في الله أن يتجسد في الجميع بعض قوله تعالى: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " الأحزاب/ 23.


                                                                                                  الحبيب عكي


اقرء المزيد

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

المشاركات الشائعة